(2)
وصلت إلى طرابلس الغرب. كانت المرّة الأولى التي تتم
فيه دعوتي لحضور تصوير فيلم في بلد آخر غير البلد الذي
وُلدت فيه، لكنها لم تكن المرّة الأولى التي أحضر فيها
تصوير فيلم بل الخامسة. المرّات الخمس السابقة كانت
جميعها داخل لبنان وفي ظروف مختلفة.
في سنة 1968 بدأت الكتابة محترفاً بينما كنت لا أزال
في أحد الصفوف الثانوية. كنت الوحيد في المدرسة الذي
كان يدر دخلاً (غير الأساتذة والموظفين طبعاً).
في ذلك العام دعاني المخرج الراحل محمد سلمان لحضور
تصوير فيلم له (لم أعد أذكر إسمه لإنه كان من الشاط
بحيث كان ينجز فيلمين إلى ثلاثة كل سنة). دخلت منزلاً
كبيراً كان التصوير يتم فيه. في البداية رفض شخص وقف
عند الباب إدخالي لأني كنت صغير السن واعتقد أنني
فضولي لا عمل له.
حين دخلت كان في بالي شيء واحد غير التعرف على هذا
المخرج الذي كنت أعلم أن أعماله كانت موجهة للجمهور
الذي لم يسمع (ولن يسمع) ببرغمن أو فيلليني أو
أنطونيوني. لكن كمرة أولى كنت مهتماً بالإمساك بشيء
إسمه سيناريو.
كنت بدأت اهتمامي بالسيناريو عندما راسلت مؤسسة مصرية
في القاهرة كانت تعطي دروساً بالمراسلة في السيناريو.
تعلمت منها أصول الكتابة (التي اكتشفت لاحقاً إنها غير
أصول الكتابة الغربية) ونلت شهادة تم إرسالها لي بعد
امتحان أجريته.
الآن أريد أن أمسك سيناريو بيدي وأقلب أوراقه.
نظرت إلى يدي فتاة تعمل مساعدة للمخرج. لم أجد شيئاً.
جلت بناظري باحثاً ثم قلت في نفسي لابد أن المخرج لديه
نسخة يحملها. تقدمت منه وسلمت عليه وكان- رحمه الله-
شخصاً في غاية اللطف.
لاحظ نظراتي وسألني عما أبحث عنه، قلت له أبحث عن
السيناريو. سألني لماذا. قلت له لأني أريد أن أراه لا
أكثر ولا أقل. قال لي:
“أنا لا أصوّر بناءاً على سيناريو. لا يوجد عندي
سيناريو. لست بحاجة إليه”.
تعجبت فسحب من جيب سترته الخارجي أربع صفحات من دفتر
مدرسي عليها ملاحظات مكتوبة بخط اليد وقال مؤكداً:
“هذا هو السيناريو”.
المرّة الثانية كانت مع المخرج المصري الراحل حسن
الإمام. هذا جاء في العام ذاته إلى لبنان ليصور فيلماً
وكنت أكتب في واحدة من المجلات الفنية من حين لآخر
ودبرت لي موعداً وسيارة.
كان التصوير يتم في بيت في مدينة عاليه التي تبعد نحو
نصف ساعة عن بيروت. وصلت قبل نهاية النهار بساعتين.
وجدت المخرج المعروف جالساً مع «الأرجيلة» يلاعب
مصرياً آخر الطاولة. الكاميرا والإضاءة في أرجاء
المكان. لكن لا أحد يعمل. لا أذكر من كانت الممثلة
(ولا عنوان الفيلم) لكنها لم تكن راضية عن «الماكياج»
مما أتاح للمخرج الوقت للعب النرد.
بعد نحو عام تعرفت على المخرج اللبناني جورج شمشوم.
كان واحداً من خمس مخرجين جدد يصوّرون أفلامهم في وقت
واحد. كان الوحيد الذي استجاب لطلب حضور تصوير فيلمه
وبعث لي بسيارة نقلتني من بيروت إلى طرابلس ومن طرابلس
إلى مزيارة (مكان ولادته). هناك حضرت تصوير فيلمه
الأول «سلام بعد الموت».
حاولت إجراء مقابلة معه، لكنه كان يتكلم الفرنسية فقط.
لغة ما زلت لا أجيدها. أسأله بالعربية ثم أوضح سؤالي
عدة مرّات ويجيبني بالفرنسية. أهز رأسي وآنتقل إلى
سؤال آخر.
بعد حين من هذا المنوال راقبت التصوير لفترة ثم
استقليت السيارة وعدت إلى بيروت. لكني عدت بصداقة دهر
ما زالت أواصرها متينة إلى اليوم.
في مطلع السبعينات وصل فريق تصوير أميركي إلى بيروت
لتصوير فيلم عنوانه «سفارة» مع الممثل رتشارد راوندتري.
المخرج كان الأميركي غوردون هسلر. لم أكن سمعت به لكني
شاهدت هذا الفيلم وأفلام أخرى له لاحقاً. كل شيء كان
طبيعياً ومثيراً لي إلى أن تكعبلت بالكابلات
الكهربائية الممدوة على الأرض خلال تصوير إحدى
اللقطات… تأرجح الضوء وحدثت ضوضاء كافية لإيقاف
التصوير. نظر الجميع إليّ. لم يبتسم أحد. انسحبت إلى
الخلف ثم انسحبت بهدوء من مكان التصوير بينما كان يتم
إعادة تصوير ذلك المشهد…
لكن كل ما سبق لم يكن إلا تمهيداً محدود الأثر والحجم
لما وجدته مرتسماً أمامي عندما وصلت إلى مكان تصوير
فيلم «الرسالة»….
يتبع….