زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

 

"في التلاشي" للألماني التركي فاتح أكن..

العدم الأوروبيّ

بقلم: زياد الخزاعي

يُشيد الألماني التركي فاتح أكن شّريطه "في التلاشي"، الحائز على جائزة أفضل فيلم أجنبي في جوائز "الغولدن غلوب"(2018)، على نبرتين أيديولوجيتين. فهو خطاب مُسيّس ومحض ضد شعبوية أوروبية، مثلما هو إشادة بالسينما كفعل تدميري للفهم المتحزّب والجاهز والقائم على إدانة غريب وافد وشيطنته قبل إستبعاده. أكن مخرج مشاكس بلا إدعاءات. عنيد وصلب في حججه بلا شطط تجاري. المرأة والعائلة مفردتان تزهوان على شاشاته. نصير دائم لهما وحافظ لقيمهما ومتمعن في متغيراتهما. جديده، مانفستو صدامي عن الزهو بالثأر، فحينما تتواطأ الدولة ومؤسساتها في ليّ الحقيقة وتستبعد قصاصها، يصبح أمام الأم الشابة كاتيا شاكرجي (إداء قوي من ديان كروغر) خيار فريد إعتباري وقدري وعاطفي لن تحيد عنه: أن تأخذ حقّ دماء طفلها الصغير وزوجها اللذين أُغتيلا بتفجير قنبلة إرهابية بيديها وعزمها.

"في التلاشي"(106 دقائق) هو ثلاثة أفلام دفعة واحدة. حكاية آصرة عائلية مبنية على توافق عرقي متوازن ومتطامن. والدة ألمانية بيضاء وشقراء مع عينين شديدتا الزرقة. وهي سمات فيزيقية أساسية، يصرّ نصّ أكن عليها على إعتبار أن العنصريّ في حكايته مهزوم قطعا، وأنه مناصر بلا هوادة الى عشق لا يخشى إختلاف سحن وتمايزات إجتماعية. أما الوالد فهو محام كردي بملامح شرقية وطلّة عصرية. رجل حيوي ويفيض بالحنوّ والإلتزام الأُسري، فيما يكون ثالثهما طفل هو ثمرة منيرة للقاح متنوع ومتداخل وخصب. أيضا، هناك حكاية تقويض عائلي يحدث نتيجة تفجير، تزرع فتاة غامضة قنبلته، خارج مكتب الزوج نوري وبوجود إبنه روكو. هنا، نتابع محنة كاتيا وهي تراقب مَمْرُورة "تلاشي" حلم بيتها وموت سلالتها وغياب أحبتها. أخيرا، هناك حكاية النوى الشخصي في إنتقام يفصّله المخرج أكن (ولد في هامبورغ عام 1973) بتأن شديد وبتبرير حكائي يتحاشى تبسيط دراميته الثرية. فبعد مشهديات المحكمة وإنهيار القضية إثر إصرار قضاة على إن الحادث هو تداع لصراع مافيوزي تركي، مفلتين التهمة السافرة عن عصابات اليمين الألماني، لا يبقى أمام المرأة المكلومة سوى رفضها الحاسم في أن زمنها قد توقف، لتندفع في خطو فردي نحو قصاصها وتوكيد عقيدتها الأسرية.

يعزل أكن بطلته عن محيط صارخ بأنانيته ونفاقه وعنصريته رغم مساندة الأصحاب والأقرباء. أنها كائن مرتهن الى معادلة ناريّة: هي بعنفوانها الأموميّ مقابل "كارتل" يميني منظّم ومدعوم. لن تتعامى كاتيا عن حقيقة "جريمتها" المقبلة، بيد أن اللا إنصاف يبرّر لها قدرها. ما يفعله أكن هنا هو أسلوبية ثنائية تنتقل بين مشاهد خلوات بطلته التي صورها راينر كلاوس، في تعاون مستمر مع صاحب "حافة الجنة"(2007)، ضمن لقطات عامة لفضاءات مفتوحة، وهي تسير في أسواق أو شوارع أو حقول للإيحاء بإقصاء ذاتي، وبين لقطات أسرية مصوّرة عبر هواتف نقالة تبادلها الزوجان عن يومياتهما، تستعيدها كاتيا لتشحن ضيماً لا يغفره سوى دمّ مقابل. فهل تملك جساراتها وتمكنها من إنجاز طويّتها؟. سيكون من العبث هنا سرد مفاجأة أكن لبطلته، لكن ما هو موكد ان هذه الشابة الأوروبية تمثل وجهاً مستداماً لصراع معقد يقوم على نوايا ناقصة الضمائر وعداوات حيوانية، يتعاظم اليوم عدد موقديّ نيرانها وسفاكيّ دمائها.

تكشف كاتيا، في المشهد الختامي، عن نبلها وإنسانيتها وتعريفها الخاص للإخلاق والعدالة. هي روح بلا شفيع تستعصيّ على تصنيف. نشاهدها في بداية الفيلم امرأة عادية، ونراها في نهايته عنواناً لخراب الأخرين وخياراتها الشخصية في آن، كابدت فيها وزر  مسيّرين لعصابية رثّة وصدامية لن تتوانى من الهجوم على زّمرتها في مشهد المحاكمة الصاخب، معلنة بحدّة عن صوت شعبيّ لا يرتضي ترهيبهم الجماعيّ. ان ما تعرّضت له بطلة "في التلاشي" هو أقرب، من زاويته المجتمعية، الى ما عانته نظيرتها الشابة سبيل(سبيل كيكلي) بطلة شريط أكن الثالث "في الجدار"(جائزة "الدب الذهب" في مهرجان برلين السينمائي،2007) التي حاصرها حيف عام نظراً لتحررها الجنسي، وتخطّيها حدود حشمة شرقية تعرضها الى تهديدات بـ"غسل عارها"، وتدفعها للرحيل الى إسطنبول. وحينما يسعى عشيق سابق الى إغوائها والهروب معه، تستحيل الى جدار صلد ضد فرقتها عن عائلتها الجديدة. هذا الإنتماء هو ما يُشرك المرأتين، وإن إختلفت وقائعه وتواريخه ومآسيه، جاعلاً منهن حسب أكن "شخصيتين بديلتين لمخاوفنا وتقمصاتها العاطفية" التي تجلّت في حالة كاتيا بفزعها من إفلات القتلة من المجازاة، و"تثبيت تلاشي" صورة أسرتها، وفي ذعر الأخرى من الوقوع ثانية في إفخاخ العدم الشخصيّ و"إستمرار تلاشي" إعتباراتها الإخلاقيّة. تتحوّل قنبلة كاتيا وهدفها الى نقيصة أوروبية ونكاية سينمائية بـ"لاهوت تطهّر" لا عقلاني آخذ في تضخم مروّع، يسعى فيها نازيون جدد بكل الوسائل الى "تنظيف" أمتهم من دخلاء، فيما يبرر قطاع مقابل، تتصدره الصورة الشاذّة لكاتيا وهي تحمل "حقيبتها الإستشهادية"!، رد فعله لقطع دابر "أبارتيد" أوروبي متجدد وشنيع، يبحث عن "ذبائح عقيمة" لخطايا قديمة.

سينماتك في ـ  12 يناير 2018

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2017)