زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

 

"بلا حبّ" للروسي أندريه زفيغينسيف..

وأد الطهارات العائلية

بقلم: زياد الخزاعي

كلّ روح سينما المعلّم السويدي أنغمار برغمان تتفجر في جديد الروسي  أندريه زفيغينسيف "بلا حبّ" الفائز بالجائزة الكبرى للجنة تحكيم الدورة الـ70 (17 ـ 28 أيار 2017) لمهرجان "كانّ" السينمائي، وبالذات ما يتعلق بثنائية العلاقات الإنسانية ومشاعر أفرادها، بخيباتهم وإنتكاسات أعمارهم المشتركة، بخياناتهم وهدمهم لصروح الغرام، بنكوصهم العاطفي وإرتهاناتهم لأغلال الأخلاق، بنيلهم السعادات وإمتحان خيبات الأمل. كلّ زيجة هي وعد، وكلّ كائن يضاف الى عائلة ما هو وهج رباني يعمر حب ويصفي ذمم. بيد أن الحياة لا تُبقي على إنصافها دائما. فميزانها غير عادل وهو محكوم بقسوة الى زّلات بشرها. هذه الأخيرة هي الجرح الغائر في حياة البطلة الشابة إشينيا(إداء لافت من ماريانا سبيفاك) التي ينزرع الحقد والكره بينها وزوجها، مجبرهما على الإنفصال. نتعرف عليهما في بداية الشريط المتأنق بإفراط في مشهدياته المفخمة وهما يتنابزان بالإساءات والعراك والصراخ والإتهامات والإحباط. عائلة تعيش تحت عهد نظام الرئيس فلاديمير بوتين حيث الهيمنة الأوروبية وعجالاتها ومظاهرها تكتسح كل شيء بما فيها نوازع الروسي ما بعد إنهيار الإتحاد السوفياتي وأخلاقياته القديمة. عائلة تنتمي الى طبقة متوسطة مكونة من كائنين هما نتاج مرحلة إنفتاح إقتصادي وسياسي، علاماته مزروعة في كل مكان من سيارات فارهة وهواتف نقالة وطلاّت متأوربة وسيولة ثراء ومناصب وسطوات، يتطلب "الحصول" عليها خنوعاً ذاتياً ودناءات وقلّة ذوق، لكن ما هو موكد إنهما ليسا من ضمن أهل الغنائم، فالرجل موظف مع عشيقة حبلى وهي ربة بيت مع عشيق ثري عابر!

تعي إشينيا إنها إرتكبت حماقة مبكرة بالزواج، الامر الذي أبعد فرصها في نيل ذلك "الحصول"، أيّ جني النعيم وتحقيق رقيها الإجتماعي والطبقي! طامتها الأكبر أنها أم لصبي لم ينل منها عطفاً حقيقياً "لأنني حبلت به بسبب غبائي". أهي امرأة أنانية أم سيدة نزقة؟ هل هي أم بلا مهجة أم كائن يستميت من أجل تغيير قدره؟ ما نسمعه هو إعترافات مطولة لهذه الشابة التي لا تخجل من كشف مستورها العاطفي في "انني لم أحبب أحداً"، تُذكر بسرعة بمشهديات الشريط الإيقوني لبرغمان "مشاهد من زواج" حيث تصبح مكاشفات بطليه خيطاً درامياً باهراً، يجسد توصيفات زفيغينسيف حول الصبر وفتح صفحة جديدة بمشاعر جديدة، والبحث عن شركاء بدائل، والإقتراب من وعي ذاتي أخر، والبدء بفصل جديد من العشرة، ايّ أن يتحقق وعد متجدد بالألفة ورهاناتها الصعبة. تلوذ البطلة الشابة بعلاقات عابرة، ومثلها الرجل المكلوم الذي لا يخجل من البكاء على عثراته. وحده يبقى الصبي الكتوم أليوشا(ماتفي نوفيكوف) معاندا روحه المخدوشة بالسباب والنكران، تقول أمه: "لم أرغب بولادته أبدا بل انني لم أطق النظر أليه"، حتى تحقيقه لقراره الحاسم بالإختفاء كفعل إحتجاجي مرير. من هنا تنقلب موازين الوالدين الشابين. يرمي كل منهما الوزر على الأخر، بيد أن ما هو صاعق سيظهر تباعاً والذي يتمثل بأن العبء وحجته بينهما زالا، فهل هما مستعدان حقاً لمواجهة خيار طلاق نهائي يدمر ما تبقى من أسرة إرتهنت وحدتها وحيويتها بيافع لم يملك مطلقاً قدرة شخصية على شتم أنانيتهما.

أن غياباً فسلجياً للصبيّ أليوشا يفترض "خلق" مقابل  حكائي يدافع عن وجه أخر للبلوى، لذا طور زفيغينسيف برجه البابلي العائلي مع حضور شخصية ناريّة، مفعمة بصدامية تمتاز بلسان سليط وسطوة إتهامية تُذّكر قوّتها الإدائية بقرينها عمدة القرية الثمل فاديم(رومان ميديانوف) في شريط "الليفيثيان"(2014) وعناده الإستحواذي. تتحول الجدة ميشا(إداء قدير مارينا فاساليفا) من ملاذ درامي أرادته الأم المحبطة سنداً أمومياً ينتشلها من ظنونها وإتكائيتها الى قاضية مفوّهة تترسّم خطايا إبنتها بعنف كلامي صريح، من دون ان يعمد المخرج زفيغينسيف الى تحريك العجوز عن مقعدها/عرشها  مشبههاً أياها بألهة ذات هيمنة مطلقة. تصرخ الجدة: "ها أنت ساعية الى ربط إبن زناك في رقبتي" لتصبغ جلستهما بلّوثة عار تتوسع رقعتها كلما مر وقت أطول على فقدان الإبن. لا رّيب ان عنوان "بلا حبّ"(127 دقيقة) أكثر وصفاً للحالة العدائية الجماعية، أيّ ان هؤلاء الأفراد مجبرون على القرابة وآصرتها لكنهم لا يملكون أدنى قدر من المحبة أو التقدير لبعضهم بعضا. تتضح سوداوية النفوس، على خلفية مشهدية شتوية باهرة الألوان ومتقنة التنفيذ نفذها مدير التصوير ميخائيل كريشمان بإمتياز بصري لطبيعة خلابة تقف كضد لخراب داخلي لشخصيات قليلة العدد، ليس عبر التعيير والإنتقاص بل عن طريق عودة كاميرا زفيغينسيف، بقراره الحصيف، الى الموقع النهري خارج موسكو الذي شهد المرّة الأخيرة لوجود أليوشا في هذه الدنيا، لتبقى الشكوك تحوم حتى النهاية فيما أذا كان للغياب نهاية سعيدة أم ان اللعنة أصابت الجميع، بما فيها سلطة الشرطة التي تفشل في الوصول الى حل معضلة الإختفاء.

تتشبه القوّة الدرامية لفيلم زفيغينسيف، الذي ولد عام 1964 وفازت باكورته "العودة" بجائزة الأسد الذهبي في مهرجان "فينيسيا" السينمائي (2003)، ويفوز لاحقا بجائزة لجنة تحكيم تظاهرة "نظرة ما" في "كانّ" عن شريطه "إلينا"(2011)، بعمليّ المعلّم الإيطالي مايكلأنجلو أنتونيوني "المغامرة"(1960) وزميله الإيراني المميز أصغر فرهادي "عن ألي"( 2009) من حيث تشارك وجهات نظرهم القاسية حول نمطية علاقات البشر وكوارثها الروحية وتساهل الناس في التذامم والحطّ الأخلاقي التي تتجلى لدى صاحب "العقاب"(2007)، في قول الجدة العنيف لإبنتها "هل تتجرأين في الحديث عن الحب، أنت لا تملكين سوى الألم وخيبة الأمل"، وهما الصفتان ذاتهما اللتان تتجليان أمام كلاوديا بطلة "المغامرة" ومثلها فتاة فرهادي مع تعاظم فشلهما أمام الأخرين في رد شكوك ورطتيهما بإختفاء صديقتيهما (ربما موتهما غرقاً!)، أما في حالة إشينيا فان تواري إبنها لا يتعلق بجديتها الأخلاقية فحسب بل في وظيفتها الطبيعية كأم. أن عالمها محكوم بإنهيار عارم، نستشفه عبر المشاهد الختامية التي تصوّر إنكباب عمال على تهديم جدران شقتها إيذانا بتدمير كيان قديم، لإن السعادة المقهورة في حياة أليوشا تضعها ومَنْ معها تحت سيف التهمة القدرية: وأد الطهارات العائلية!.

سينماتك في ـ  24 يوليو 2017

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2017)