"الأغنياء الذين يعتقدون الفقراء سعداء ليسوا أكثر
غباء من الفقراء الذين يعتقدون أن الأغنياء
سعداء"(مارك توين)
فيما كان هاجس السويدي روبن أسلوند في أشرطته الثلاثة
الأولى "لعبة" (2011) و"قوّة قاهرة" (2014) و"المربع"
(سعفة ذهب، كانّ 2017) تفكيك المَنْقَصَة الأوروبية
وأخلاقياتها وسلوكاتها وأنانياتها وتوحشها ونفاقها،
ينتخب في "مثلث الحزن"، الفائز بجائزة السعفة الذهب
للدورة الـ75 (17 ـ 28 مايو 2022) لمهرجان كانّ
السينمائي، نهجاً سينمائياً فكاهيّاًّ وتدميريّاًّ للا
دماثة والأَثرة والشدَّة لدى فئة اجتماعية راقيّة، لا
تمنعها طبقيتها الرأسمالية من ارتكاب رزايا وقباحات
وسوء تدبير.
"مثلث الحزن" هو تعبير خاص يستخدمه جراحو التجميل في
عمليات البوتكس للتخلص من تجاعيد تظهر عند الجبهة
وملتقى الحاجبين, أما بسبب تقدم العمر أو كثرة متاعب
الحياة. نسمع هذا العنوان عبر طلب يطلقه مندوب شركة
تُجنَّد فتياناً شبه عراة بمواصفات معينة لدور أزياء
نافذة، فيما يدور بينهم مذيع صاخب مُثلّي النزعات،
يحرضهم على إطلاق نزعاتهم الأنثوية الخفيّة، وينظم
بينهم مباراة بريئة حول تعابير وجوههم، إن كانوا سعداء
أو تعساء، حين يعلنون عن ماركات أزياء يمثلون
منتجاتها، ومنها يُفهم تأويل عنوان الفيلم. الكلام
موجه الى البطل الشاب كارل (الممثل البريطاني هاريس
ديكنسن) العاري الصدر خلال فقرة عرض أمام لجنة اختيار،
لن يتكلم فيها بل يؤمر من قبل رجل لا يرى فيه سوى
متَاع تسويقيّ، سرعان ما تُفسده، في حالة انتخابه،
مزايا شهرة وغنى سبق أن أفلتت من بين يديه بسبب رعونته
و غرَّره.
يصوغ أسلوند (1974) المشهد الافتتاحي الفاتن كتهريج
جنسيّ ذي غمزات تهديد بشأن ثمن أخلاقيّ، يكون على
المتقدم/ه دفعه للحصول على اختراق يضمن له/ لها باب
فرج وشهرة ونجومية وثراء. هذا الأخير هو أساس مشهد
لاحق نتعرف فيه على صديقة كارل العارضة الشابة الساحرة
يايا (الممثلة الجنوب أفريقية شَرلبي دين) وهما جالسان
وجها لوجه في مطعم فاخر، قبل أن يشرعا في مجادلة
مغرّقة في السفاهة حول دفع الفاتورة، على مبدأ أن
علاقتهما يجب أن تكون متساوية، بينما في حقيقتها هي
مقاربة لتحيّز جنساني نمطيّ، كما يوضح أسلوند في حديث
صحافي حيث يفترض الشاب أن على الحبيبة تأمين المال على
الطاولة لأنها صاحبة دخل معتبر، فيما تظنّ هي أن عليه
إتمام الأمر لإنه رجل!.
يايا نموذج صارخ للافتراء واللا خصوصيّة والاستخفاف.
كائن مهووس بعدد "الليكات" على مواقع التواصل
الاجتماعي باعتبارها سوقاً رقميّاً للجمال والتقييم.
لن تتوانى من تلفيق مشهديات رفاهيتها وتصويرها ونشرها
بعجالة. كُلّ وضعية جسديّة لها يجب أن يكون هدفها
إغواء متابعيها، ما يبرَّر قلّة قطع الملابس فوق جسدها
الشبقي. أنه هندام شخصية مزوَّرة وجموحة وعابثة بلا
قيم أو وقار. روحها ملك لابتزاز متواصل، يحولها في
المقطع الأخير من الفيلم المكون من ثلاثة أقسام، الى
شخصية رئيسية، تملك روحاً نارية تشعل فيه مناورات
تهريجيّة مركّبة بامتياز، وتدير مناكفات غيرة، وترتَّب
مقالب إزدرائيّة بحق "كائنات" أقل شأناً.
بسبب العدد الهائل لمتابعي يايا على الإنستغرام، تتم
دعوتها مع حبيبها على ظهر يخت فاخر ثمنه 250 مليون
دولار، يملكه ملياردير من الأوليغارشية الروسية
(الكرواتي زلاتكو بوريتش) ومعه زوجته وعشيقته، يتفاخر
بغناه المالي وتحكمه بصناعة الأسمدة في أوروبا، إضافة
الى زوجين بريطانيين أثريا من تجارة الأسلحة وصناعة
القنابل اليدوية، ويستعيران أسميهما من آل تشرتشل!،
ومعهما رجل إسكندنافي عصابي يصطاد الفاتنات بكثرة مال
كونه من هندسة تطبيقات الكرتونية، يجتمعون مع شخصيات
أخرى مجهولة وعابرة (منهم سيدة ألمانية تُصاب بسكتة
دماغية تجعلها تردد عبارة واحدة) لن نلتقيها إلا عند
حفل عشاء تقليدي لقبطان اليخت الذي يسعى عبر تنظيمه
ببذخ لافت الى الانتقام من فاحشي الثراء، في مشهد عابث
مُغرق بباروديا هدَّامة.
مهمة هذا القبطان المدعو توماس (الأميركي وودي هارلسن)
الماركسي المخمور، وهي شخصية فائضة وبلا عمق وغير
مبرّرة، زيادة التفاكه مع "رئيسه" الروسي مالك اليخت،
والإبقاء على عيار التّهكّم الى أقصى درجات جنونه،
والتسابق على إدامة جلسات كحول ماراثونية بينهما، تجعل
مطارحاتهما أشبه بجلسة شيطانين يقيسان فيها غباوات
عقيدتين متصادمتين ومتناحرتين بعناد، ربما تقود شراسة
قادتهما الى محق عالم أرضي غارق في فساد وحروب
وديكتاتوريات وفظاعات. يستعير "الروسي الرأسمالي" من
أقوال جون كيندي ورونالد ريغان ومارغريت ثاتشر، بينما
يختار "الأميركي الشيوعي" من مارك توين: "لا تجادل
أبداً مع أناس أغبياء، لإنهم يسحبونك الى مستواهم ثم
يهزمونك بخبرتهم"، أو من كارل ماركس: "سنعلق
الرأسماليين بالحبل الذي يبيعونه لنا". تنتهي هذه
المناظرة بقراءات من "البيان الشيوعي"، يلقيها القبطان
وهو في قمة ثمالته عبر مذياع، كي يسمعها ركاب لن
يكترثوا سوى بتصاعد شدة عاصفة بحرية هوجاء، تتيح
لأسلوند فرصة نادرة يحول فيها مجتمعاً صغيراً ضائعاً
وسط محيط شاسع، لكن شديد المُرَاءات والتشوَّف والنفاق
الى كرونولوجيا متناميّة لفوضى عارمة، تبدأ بذعر، ومن
ثم الى حالات دوار بحر وتقيُّؤات جماعيّة، قبل أن تغرق
الشاشة والبشر والغرف الشديدة الأناقة وإكسسواراتها
بفيوض من غائط مراحيضها، كإشارة سوريالية الى عودة
الجميع الى حيوانية، غطت عليها فروض برجزة آثمة وإِفك.
لن يفلت أحد من غرق زريبة بشرية وحمولاتها من عنصرية
ومراوغة ودجل سوى قلّة من أهل بخت، نلتقيهم في فصل
ختاميّ. |