زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

مهرجان كان السينمائي الدولي الـ 75

Boy from Heaven

"ولد من الجنة" للمصري السويدي طارق صالح.. داحس وغبراء في أزهر القاهرة

بقلم: زياد الخزاعي

 
 

في شريطه الخامس، يتحرّش المصري السويدي طارق صالح في "ولد من الجنة" المعروض ضمن المسابقة الرسمية للدورة الـ75 (17 ـ 28 مايو 2022 لمهرجان كانّ السينمائي، بكيان فقهي إسلامي مؤثر عبر حكاية مختلقة بالكامل. هدفه الاستفزاز لا الإمتاع مستخدماً صراعاً حلزونياً وتشويقياً وبوليسياً داخل أزهر القاهرة وأروقته وباحاته وغرفه السرية!.

يرهن صالح مشاهده الى افتراض بحت حول سباق مخابراتي وسلطوي يسعى الى "إفشال" انتخاب مفت جديد على رأس قيادة "منارة العالم الإسلامي"، له ميول "إخوانية"، وله عزم على مواجهة محاولات رسمية لإخضاع مؤسسة دينية عريقة الى أخرى دنيوية عسكراتية، أدت الى داحس وغبراء حداثية في قاهرة المعتز.

لن يفلح صاحب "متروبيا" (2009) في إقناعنا بإن نصّه يسعى الى "إعادة تدوير" تأريخ غير محسوم. قدرته وخياله لا تسمحان له سوى اختراع خط درامي هش، وفي أحيان كثيرة مدعاة للتفكه. الى ذلك، لم يكن مفهوماً دوافع إنتاج قصة بافتراء واسع الأكمام ـ كما هي ملابس الأزهريين ـ تخفي بين طياتها مؤامرات وغُلُول وتصفيات وسفك دم ومطاردات بائسة.

في حاضرة أزهر صالح ليست هناك ملائكة بل أباليساً سينمائية، تبرر زلات وتُخفي رزايا، وتستمري طعوناً وتخوينات. تشتد أفعالها في حفر كمائن مسيسة مع وفاة مفاجئة للمفتي الأكبر العجوز، وهو يلقي كلمة أمام طلابه ومريديه، ليفتح باباً جهنمياً لـ"اقتتال" ظنّي بين مجموعات لا تهدي بالسُنّة وقوانينها وأخلاقياتها وتكافلاتها، وإنما تقودها حُميَّا أنانية لخطف عرش يقود الملايين من الرعايا في جهات العالم. بالضرورة، لن يمس صالح وطاقمه قدسية المسجد الجامع وأوقافه الذي أسسه الفاطميون عام 670 ميلادية، كي يصبح لاحقا معهداً لتعليم المذهب الشيعي، قبل أن يعطله صلاح الدين الأيوبي، ويمهد لـ"تسنّينه" على يد الدولة المملوكية، بيد انه يحوله الى ما يشبه غمر مظلم ومفازة معمارية، يحيط به قتام وشدائد ونفوس خؤوونة. سنقبل بحجة صالح الملتبسة حول الصراع على استقلالية الأزهر لا كدعوة منه أو تحريض، فالشاب (1972) لا يعرف بالضرورة كلّ التفاصيل، وهو لم يقم ببحث معمّق بشأن النزالات بين الجامع والقصر خصوصا ما جرى حول دستور 1923 وبالذات الفقرة الدسيسة بشأن تعيين الشيخ الكبير، وإنما نستسيغ هوسه باللعبة السياسية بينهما التي تتجسد بقول جارح للجنرال السكران (الممثل الفلسطيني محمد بكري): "أن مصر ما يحكمهاش فرعونين"! ولكي يُقنعنا أنه لا يتحامل على الطرفين، أخترع شخصية الشاب الصياد أدم (إداء لافت من توفيق برهوم) الذي تقرع الصدفة عالمه الصغير والفقير حين تصله رسالة قبول للدراسة في الجامع الشهير. صدمة البطل لن تكون القاهرة وزحمتها وضجيجها بل في نظام ذكوري صارم ومقنن وبطريركي. يوزع تراتبية صارمة وصفات قيادية ومهمات عقائدية بين شبيبته، فيما تتحول باحات المسجد البهية (تم التصوير في إسطنبول تركيا) الى جلسات محاضرات وتهذيب وتعليم، يحولها الشريط لاحقا الى منابزات إيديولوجية بين أقطاب متناحرة، تعتمد على آيات وأحاديث نبوية وأقوال واستعارات فقرات، في إشارة ماكرة الى سطوة ثيوقراطية وقدرتها على مياسرة مصالحها.

ما هو غريب في نصّ صالح أننا لن نشاهد أدم في درس ما، وإنما يستعجله في الغرق في لجة مكائد سطحية وبلا روح. يتصادق أدم مع زميله زيزو (مهدي الذهبي) المتعامل مع المخابرات وناقل أسرار الأزهر ومتحازبيه، ما يمهد للعقيد إبراهيم (فارس فارس) الى اختياره بديلاُ عن الأول قبل أن يُفضح أمره لدى "مافيا" الأزهر!، يخسر رجل المباحث هذا رهانه بعد جملة من الفصول لإن غريمه صبحي (مو أيوب) أكثر قسوة وأشد دهاء وأبين دموية من رجل مسّ الحنان قلبه من دون أن يصحو ضميره.

يُقتل زيزو ويُجند أدم بعد تهديد مبطن بشأن عائلته. هو طريدة سهلة لكن مهمتها ماراثونية بين درابين المسجد السرية ومقاهي القاهرة حيث يلتقي الاثنان للتعارف ولاحقا الى استلام وتسليم الأوامر. فجأة، يقرر مخرج "قضية هيلتون النيل" (2017) أن بطله ليس ساذجاً أو خرعاً، وعليه أن يمسك بخيط حياته الوحيد، فيخلق منه "محققاً" متوازياً لتورط المخابرات في تصفية زميله، وإقدام أحد الأئمة والمرشح القوي للخلافة على مسايرة اقتراحه الغريب في أن يستل براءته من تحمل وزر القتل لضمان عرش أزهر، بدا حسب مدير التصوير بيير أم ومصمم الإنتاج روجر روزنبيرغ كديوراما بنائي ومسرحي خال من الحيوية. كما هو متوقع فأن أدم هنا يحمل جبروتاً شخصيّاً رغم تردده وجزعه وفزعه، أنه "ولد" مبارك نزل من جنة غامضة وبحرية، سيعود اليها لاحقا، راضيا بما حققه من قصاص بين متنازعي السطوة الحكومية. الأزهر إذن مُصان لأن استقلاله لا يُفرض من أحد بل هو ديدنه وسر بقائه. أذن ما الذي تحقق في عالم "ولد من الجنة" ليس سوى حسرة سينمائية لمخرج مميز وكفء في مجال التشويق الذي تأكد في عمله الهوليوودي "المتعاقد" (2022) حول خبائث أهل الـ"سي آي أي". يصلح فيلم صالح حول أزهر القاهرة الى أن يكون تلفزيونياً ممطوطاً بالمطاردات وليس نصّاَ إنتقائياً مخادعاً، يهدف الى خلق رجّة إعلاميّة، شهدت الكروازيت إحتداماتها بسرعة وشدة غير معهودتين.

سينماتك في ـ  25 مايو 2022

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004