زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

مهرجان كان السينمائي الدولي الـ 75

Tchaikovsky’s Wife

"زوجة تشايكوفسكي" للروسي كيريل سيربرينيكوف.. لوثات الروح الخاسرة سلفاً

بقلم: زياد الخزاعي

 
 

عوالمه موغلة في ظلمة بشرية. شخصياته مأخوذة بإنقلابات سياسة وإعتبارات طبقة لا ترحم أي دخيل. درامياته المتداخلة مصنوعة بنفس ممسرح خالص، تقود أبطالها الى مواجهات مجنونة. حكاية امرأة من محتد متوسط وشديد التدين، تقع في غرام موسيقار عظيم، يجد فيها خلاصاً مؤقتاً من ضيق مالي يعرقل إبداعه.

العلاقة بين بيوتر تشايكوفسكي (أودين بيرون) والشابة أنتونينيا هي صفقة غريبة الطعم والمسالك والسلوك. تريد الثانية أن تحمل نطفته وأسمه، فيما يحسم الرجل أمرها بإعتبارها كائناً عابراً، لن يسمح له بالمناورة في أيّ ظرف.

في المشهد الإفتتاحي لجديد سيربرينيكوف (1969)، الذي يتنافس على السعفة الذهب في الدورة الـ75 (17 ـ 28 مايو 2022) لمهرجان كانّ السينمائي، نلتقي بالشابة في مكتب دفن، تناور من أجل وضع لمستها على تابوته المفتوح، لكننا نفاجأ بالرجل ينهض من "غفوته الأبدية"، ليطردها ويلعنها: "الزيجة منك شائنة"، قبل أن يعود الى فراش موته!. يصبح هذا المشهد التغريبي /البريشتي الصادم لافتة درامية لنصّ يتلمس أجواء قاتمة وملعونة، قاعدته علاقة ملتبسة بين شخصيتين متناقضتين الى حد الشناءة، وسينوغرافيته روح روسيا القيصيرية بكل عنفوانها العسكري وألقها الثقافي المتأورب. من هنا، تجتمع الشخصيات الثانوية على شكل كوروس إجتماعي يُحصّن الموسيقار من الإختراق، ويبعده عن إفساد إلهامه. يتفق الجميع على أن الزيجة ستستر مثلّيته، وتجعل النبلاء من حوله كجيش من مريدين، يكررون هتافات التمجيد لقيصرهم الموسيقي المليء بأنفة العداوات والحماقات الشخصية وعَتَه القلب والضمير.

هذا الشريط الجندري بإمتياز ليس عن تشايكوفسيكي بل عن روح نسائية قررت أن تقع في الغرام رغم كل موانع العائلة والكنيسة والأعراف. هي طالبة لدى الموسيقار لكنها بلا ملمح إبداعي، تنكب جاهدة على التدريب من دون فائدة. تدّرس طلاباً ملولين نوتات موسيقى حبيبها لإنها لا ترغب في إبعاده عن لحظات يومها.

أنتونينيا شابة صالحة ومتدينة، زّلتها الكبرى أنها أغفلت "النقص الجنسي" لدى رجلها. أغمضت فطنتها عن رؤية خيارات رجل يهفو الى رجولات ذكور أخرين، تقول له: "لن يهمني ما يقولون. أريدك أن تكون مُلكاً لي. أوظب يومك كي تتفرغ الى موسيقاك. هل هذا طلب عسير؟". وعورة طريقها تتضح لاحقاً. يرفض الرجل مواقعتها. يعاملها بإزدراء. ويقلل من حضوتها بين شلته. صور سيربرينيكوف المقاطع الأولى هذه بدقة مشهدية، أنجزها الفنان فالاد أوغاي بفخامة تفاصيل لا تُضاهى، فيما إختار مع مدير التصوير فلاديسلاف أوبليانتس ألوانأً باستيلية، نثراها على شاشة عريضة جعلت مزاج الفيلم أقرب الى إجواء وعوالم الكاتب فيدور ديستوفيسكي وحضيضه المزدحم بإناس تخيب ظنهم أقدار عاسفة، وهو السبيل ذاته الذي يقود البطلة الشابة من الخيبة الى جنونها، وتالياً الى ذلك الحسم الشخصي بعدم التخلي عن رجلها مهما مارس الأخرون من بطشهم وضررهم.

في القسم الثاني من الفيلم الذي يداور التواريخ والأماكن بين موسكو وسان بطرسبوغ في الأعوام ما بعد 1893، يخصصه سيربرينيكوف بالكامل الى منايا البطلة التي تجد نفسها أمام خيار فريد هو أن توقع على أوراق طلاقها، فيما مال ديتها متوافر في جيوب زمرة شباب يتحركون في تصميمات راقصة لأباليس بإناقة وتباه مفرطين حول ضحية بلا حول. تصرخ: "لن تسرقوه مني"، وهي تراهم يتواطؤون ضد وجودها وعنوانها كـزوجة. ما هو مدهش هنا، أن صاحب "زكام بيتروف" (2021) الذي تعرض الى الإعتقال والإقامة الجبرية على يد سلطات بلده بتهمة التحايل المالي، يذهب الى حالة قصوى من حريته الإبداعية، مستخدماً كل أشكال العروض البصرية من تجهيزية تشكيلية، كما شعت في مشاهد علاقتها الآثمة مع محاميها وخلفتها الى أطفاله الذين أصرت على أن يحملوا أسمها ولقب تشايكوفسكي، ومن فواصل رقص تعبيري، كما صُممت الى مشاهد "الأزواج الشباب العراة" الذين يتم إقراح بيع أجسادهم الى المرأة كجزء من صفقة "تخفيف شهوتها" التي لا تنالها مع موسيقارها. كُلّ مشهد هنا يستحق مقاربة معمقة تُحلل استراتيجيات سيربرينيكوف البصرية الغنية بصبغاتها غير المألوفة. ولعل أفضل خلاصاتها ما توافر في المشهد الختامي حيث يأتي حريق كبير على بقايا ممتلكات الشابة التي ورثتها عن أسرتها، لتتحول النيران الى "متافور" تشكيلي متعدد الطبقات لخراب نهائي، يقود أنتونينيا الى مهلكتها وتشردها ولوثتها، حيث نراها في إطار مغلف بدخان أبيض كثيف وهي تسير نحو هوة ذاتية عنيفة لسعير روسي أبدي.

سينماتك في ـ  22 مايو 2022

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004