"جبالي القديمة الآن بدت منعزلة أكثر من أي وقت مضى.
أخرج لأتمشى ولا أرى شيئاً سوى خرائب وحطام" باول
كونيّتي (ص206)
"لماذا لا تذهب وتصادقه؟"، تُحرَّض والدة راوي حكاية
"الجبال الثمانية" للكاتب الإيطالي باولو كونيّتي، حين
تعلم أن ولدها بيترو (11عاماً) تعرَّف على قرينه
الجبليّ راعي الأبقار برونو من دون أن يفلح في عقد
وثاق رفقة طارئة معه، تُعينه على تمضية عطلة عائلية
عند سفوح سلسلة مونتي روزا الإيطالية ومروجها. يجيبها
ان "تكوين الصداقات" ليس مهماً لديه، فـ"البقاء بمفردي
يعجبني". هذا إعتراف مخادع، يُطلِق تباعاً مصافاة
ثنائية تمتد طوال عمرهما وقدرهما، وأيضا ما نوت عليه
الطبيعة في النيل منهما كلّ على حدة.
يتحصّن الأول، نجل المهندس ومعلمة المدرسة، بمدينيته
وعلو محته الطبقيّ وثقافته وطبائع أنَفَته المكتسبة من
مجتمع شمال صناعيّ ثري، فيما يسير الثاني بثّقة شخصيّة
كاسحة في دروب حياة بريّة قاسية ومقتَّرة ومعزولة.
عالمان يبدو أن إلتقاءهما معدوماً أو خاسراً على أقل
تقدير، لكن معجزة صداقة ذكوريّة تتفّجر بين شعاب
رُوَاء، يصف البطل عناصرها على نحو فلسفي بـ"جمال حزين
ومرّ. جمال لا يبعث السلام بل القوّة، وبعضاً من
الشجن. جمال عكسي".
نصّ كونيّتي وهو متسلق جبال محترف، صدرت ترجمته
العربية عام 2018 عن دار الخيال البيروتية، وبجهد
متألق من د. أماني فوزي حبشي، مكتوب بسردية مُحْتَشِدة
لكن بإسلوب شديد البساطة. مُغرق بوصفيّة تعبيريّة،
تستعير نخاعها الحيوي من طبيعة رعويّة خلّابة، يكون
الصبيان بين أحضانها كنُّطفتين، عليهما أن يراعيا
إشتداد عودهما، بإستخدام عناصر ذلك الكون ومساراته
الجبلية وخرائطها وشفراتها (كود حسب وصف البطل).
كلاهما مهووس بعظمة القمم حولهما وحجمها وجبروتها، وهو
أمر ينعكس تماما على مفهوم الألفة بينهما وسموها
وأزليتها وصوفيتها، وهي خلاصة سيتوصل اليها بيترو
بقوله: "فأيما كان القدر، فهو يسكن في الجبال التي
تحلق فوق رؤوسنا"، ما يفسر "عوداته" الى بلدة غرانا،
وقبول قرار مشترك مع صديق عمر في إعادة بناء وتأهيل
"منزل المصالحة" (وهو عنوان الجزء الثاني من الرواية)
عند الصخرة العجيبة(بارما درولا) بعد قطيعة طويلة
وإجباريّة، كعنوان لميراث أسريّ، وإشارة على إستئناف
رفقة شخص "كان رجلاً لم أعرفه، ولكن في جزء ما كان
هناك فتى أعرفه جيداً".
*******
أفلمة الثنائي الفيلمنكي شارلوتا فنديرميرش (1983)
وفيليكس فون غرونينغن (1977)، الحائزة على "جائزة لجنة
التحكيم/ مناصفة" في الدورة الـ75 (17 ـ 28 مايو 2022)
لمهرجان كانّ السينمائي، قاربت بإقتدار وفطنة
سينمائيين تلك الطاقة النقيّة المُحرَّكة لسجايا
غامرة، ينتشر عنفوانها بين ضمائر حيَّة ومتعاطفة
وأمينة. مشاعر لن تخبو أو تزاح لإن غريزة كائنيها
تنتمي الى قانون رَبّانيّ خالد ومَجِيد، بذريعته فإن
عهود الصُحبَة بينهما لن تُعوج، ولن يصيبها الصدَع.
هكذا، يختار الشريط أسلوب درب جبليّ يبدأ من نقطة
(اللقاء) أرضية بين البطلين، ويسمو صعوداً الى قمة
(الإفتراق) دراميّة حزينة حول خيار فردي، يدفع بيترو
نحو مغامرات في الهيمالايا وعند سفوح الشقيقات
السامقات الثمانية لأفريست، قبل أن يستقر في المدن
الكبيرة ممتهناً إخراج أفلام وثائقية لن تُلفت النظر،
فيما يتقيَّد برونو الى أمانة وعد بقائه في البقعة
ذاتها التي شهدت مولده، راعياً المنزل الذي عمراه
ورفعا سقفه معا، وأيضا خاسراً بسبب عناده مزرعته
وامرأته(وهي صديقة بيترو السابقة قبل أن تقع في عشقه)
وإبنتهما، ومحروساً بقمم الألب، حتى ذلك اليوم المشؤوم
الذي طمرت ثلوج عواصفها جثته، في إنتظار أن "تكتشفها
الغربان أولاً، ويعثر عليها مسعفون في مجرى ما في عزّ
الصيف".
في مشهد إفتتاحي يستعير معلومات نظيره في الرواية،
نلتقي عائلة غواستي حين عودتها الى القرية التي شهدت
موت بييرو أقرب صديق الى مهجة الأب جوفاني(فيليبو
تيمي)، مدفوناً تحت جليد إنهيار عظيم. الراحل هو شقيق
والدة البطل بيترو، وبسبب زيجتهما الملعونة، تقوم
عائلتها بنبذها، ليرحلا نحو عاصمة لومبارديا.
يُعلمنا البطل بذلك عبر تعليق صوتيّ مصاحب، يستعير
سيرة كونيّتي، لكن الشريط سرعان ما يتخلى عن نبرة
إرشاداته، مصوّراً يوميات اليافع، وخضوعه الى سطوة
والده في التسلق والطواف بين الجبال ووديانها وقراها
ولقاء رعاتها والتعرّف عليهم. إنه التأسيس لشغف ذاتيّ
يحوله لاحقا الى أشهر شخص في وادي أوستا. هنا، يخترق
عالمه فجأة برونو "أخر طفل في القرية" كما يُعرّف
نفسه، ويقوده الى الثيمة الأصيلة لعهد الصداقة: "أن
تعود وأن تكون مُحِباً!".
******* |