يملك الشّريط الثالث للإيراني الموهوب سعيد روستايي "
أخوَّة ليلى" ضراوة غير معهودة. تحاصر البطلة ووالديها
وأشقائها الأربعة كونهم فاقدي خصوصيّة. هذه الأخيرة،
ضحية حيّز مكاني ضيق، يتمثَّل بشقَّة صغيرة متقشّفة
وعدائيَّة، وأن كانت شديدة النظافة والترتيب. يتكدّسون
بين جدرانها بتوافق غريب لكن بصراعات مكتومة.
الجغرافية في "أخوَّة ليلى"، الحائز على جائزة
الفيديرالية الدولية لنقاد السينما (فبريسي) في الدورة
الـ75 (17 – 28 مايو 2022) لمهرجان كانّ السينمائي،
فعل دراميّ لئيم وتحريضيّ. من جهة، أنها مساحة مقتّرة
ومزدحمة لن تسمح بحريّة شخصيّة، وأخرى تجعل من الكلّ
خليّة محمومة، يبحثون عن مخرج ما، أو تحقيق شيء من
إنقاذ وبأيّ ثمن.
ينظر روستايي (1989) الى المكان ككيان كاره لقاطنيه،
ويَقْسِرهم على الفرار، وأيضا كمؤشّر على شِدَّة
متوالدة ولا نهائيَّة حيث أنَّ الحُزمة البشريَّة
المتكوّمة على بعضها، هم رجال ونساء راشدون،
ممتَحِنُون بإيجاد منفّذ حياتيّ، هو في الواقع غير
متاح أو منفي كوجود، يقودهم الى تنازلات أعتباريَّة
مجحفة، تنال من كينوناتهم وهيباتهم وشهاماتهم.
أن شياطنهم تتكاثر بجوّ فاسد وقاتم. مستهدفين أخوَتهم
كقيمة أخلاقيَّة، ليحيلوها الى دناءات وتآمرات وملامات
وضغائن ومكر. لذا فعلى الأشقَّاء دفع ثمن باهض من أجل
تأمين ديناميكيَّة عائلتهم على حساب خطط شخصيّة
وخلاصات فرديَّة ضدَّ واقع ضاغط ومسدود الأفق، وأيضا
من أجل إيجاد سبل للإفلات من فآقة، تتراكم بسبب ظروف
إقتصادية عصيَّة، تُعقَّد مصائبها عقوبات غربيّة قاسية
(وإشارتها البليغة تظهر مراراً عبر صور الرئيس
الأميركي السابق دونالد ترامب على شاشات التلفزيون)،
هي جرائم حرب متواصلة وقصديَّة، تنال في المقام الأول
نسيجاً إجتماعيَّاً ضارباً في قدمه وتعقيده، مفكَّكة
أواصره ومُهِينة عزَّة أسره وطبقاته.
يتساير هذا الحصار اللئيم مع جرائم حرب سلطة محليَّة
ثيوقراطيَّة رجعيَّة، تنال بدورها من أمان حياتيّ
لملايين من أفراد يُزَاحُون من الواجهة الإقتصاديّة،
ليقعوا ضحية فقر وإدمان وجريمة و..تآمر لهروب جماعيّ.
وهو ما يتفجَّر في مشهد إفتتاحيّ مركَّب وحرّكي
وإتّهامي، أنجزه روستايي بتعقيد بصريّ وتمكين إدارة
طموحين لحركة مجاميع عمَّال مصنع حاشدة، ينظمون
إضراباً ضد فساد إدارته التي سرقت الأرباح
والمرتَّبات.
وسط فوضى وعنف شرطة مكافحة الشَّغب المصورة بكاميرا
محمولة ذات نفس تسجيلي، نرصد الشقيق علي رضا (نويد
محمد زاده) محاولاً تفادي إِحتسابه من فئة المعتصمين.
فالشاب لا يرغب في التسريح وخسارة فرصة الحصول على
تومانات قليلة، يضعها لاحقا في يد شقيقته الوحيدة
والعزباء ليلى (إداء قدير من ترانه علي دوستي) أسوة
بالثلاثة الأخرين. بيد أن السّطوة لا تأتمن للنيَّات
وإنما تنتخب نظام إدانة جماعيَّة. أن حالة الإستعصاء
ومكابداتها اليوميّة وضناها المُؤصَّل، تتجلَّى
بغُصَّة شاب تحوُّل وجهه الى كتلة رعب، شاهداً على
فظاعات قمع وقسوة دم، واعياً أن مصيره أصبح محكوماً
بقوى بَغي لن تُهادن، ولا سبيل أمامه سوى الإستسلام أو
التَّحايل.
يختار روستايي بفطنة عالية الخيار الأخير كثيمة تأثيم
لنصّ ينتمي الى طائفة "الميتا ـ سينما" وبنيتها
الحكائيّة المتداخلة التي أمدَّته بوسع دراميّ هائل
لتخطيط بيئات متقابلة، تمثل كلَّ شخصية وظلالها وطلتها
وسلوكها وحساسياتها، وهم مجتمعون ضمن طوبوغرافيّا
واحدة ضيّقة (هناك مشاهد تضم سبع شخصيات تتكلم دفعة
واحدة). سائراً بثقة على نهج المعلم الإيطالي لوكينو
فيسكونتي وبالذات في تحفته "روكو وأخوَّته" (1961)، ما
يجعله واحداً من ذُرّيَّة مجيدة قاربت الفظاظات
الإجتماعيّة ونزعاتها التي تقود الشاب روكو الى عالم
مديني شرس لن ينال من رأفته ونصاعة ضميره وتفانيه
لأشقائه. على منواله، يناور علي رضا ضد خسارات ذاتيّة
عبر إيجاد فرص أخرى حتى لو تطلَّبت مهانة وقهر. يجد
روكو ضآلته في الملاكمة لضمان شهرة وثروة، فيما يجد
إبن طهران نفسه أسيراً لفكرة ليلى الحماسيَّة في تأسيس
مشروع تجاريّ، يُحقق كسباً مالياً للعائلة رغم تذبذب
سوق مخترق بعقوبات دوليَّة. هذا رهان طارىء كما
حيواتهم. الخوض فيه مغامرة كما أحلامهم التي يستعرضها
مشهد خارجيّ تمهيديّ بين الأخ وأخته على سطح العمارة
السكنية حيث تعكس كلمات ليلى تهادناً مع مساعي علي رضا
في الفرار من بيئته، ما يعرضه دوما لإنتقاد الجميع،
بينما ترى هي في الأمر ميزة، وتخبرته أنَّه على عكس
الآخرين، يتخذ القرارات بشكل مدروس أكثر من إخوانه.
وحسب وصف روستايي فإن "الهروب ليس ما يميز نيَّة علي
رضا بل أن هناك نوعاً من حدس وذكاء يجعلانه يبحث عن
هدوء وسكينة. مدركاً أنه لا يمكنه الحصول عليها إلا
بالحفاظ على مسافة مع أسرته".
تلك المسافة، هي علَّة كيانيَّة للجميع. فأينما ولُّوا
وجوههم، يجدون أنفسهم متواجهين في سخط جماعيّ ضمن
الأمتار القليلة لشقَّتهم، تحاصرهم حوارات صُدَاح
طويلة ومشدودة وناريَّة على مدى 169 دقيقة. أنَّ
الشروخ تتعاظم داخل ألفة كينونة مجتمعيَّة من طبقة
متوسطة، يعي أفرادها أنَّهم أقرب الى ضنك وعُسْرَة
وشقاء. يرسم نصّ "أخوَّة ليلى" رؤية كارامازوفية (نسبة
للقب الأخوة في رواية الروسي فيودور دوستويفسكي
الذائعة الصيت) لكلّ فرد لكن من دون فصول. هم كتلة
ملعونة بشَّقاء يُضْني كتفي ليلى حيث نراها في بداية
الشّريط وهي تخضع لجلسة تدليك ونستمع الى لوعتها. تدلّ
طلتها على امرأة حزينة بشكيمة عمليَّة وقويَّة.
لن يجعل روستايي منها ضحيَّة سهلة لظنوننا بشخصيَّة
جندريّة عالمثالثيَّة قدرها المهانة والإقصاء، بل يكشف
لاحقا إنها خليط من شبيهات لـ"إيبونا" الألهة
السلتيَّة التي تقود أرواح الخطاة في الآخرة،
و"فالكيري" الأنثى الإسطوريَّة الإسكندنافيَّة التي
تقرر مَنْ يموت في المعركة، ومًنْ يتم إختياره ليمضي
آخرته في فالهالا. تحكم الشابة الجميع، تناورهم من أجل
التقارب، تتمعَّن في مساراتهم، تحنو عليهم ولن تخذلهم
أو تنكث بوعودها. فهي الوحيدة بين الجميع مَنْ يملك
دخلاً ثابتاً، وعليها أن "تصون" كراماتهم رغم غرقهم في
الخداع، وأن تضمن لهم "قنص" (كما هي الألهة الرومانية
أرتميس) أكبر قدر من لحظات السعادة الفالتة من بخوتهم،
رغم خيانات ولاة الأمر وفشل عمائمهم في تأمين حياة
كريمة.
هكذا، يصبح الشَّقيق الأكبر بارويز (فرهاد أصلاني)
الذي يعاني من بدانة مفرطة وحظ عاثر لا يؤمن له ولداً
صبياً بين خِلْفَة بنات، عثرة كبيرة أما مشروع ليلى/
علي رضا. فالرجل يعمل منظّفاً لحمَّامات مجمَّع
تجاريّ، ويتحايل على زبائنه للفوز بتومانات أكثر.
يصرَّ على أن تحويل المكان ـ بعد ردمه ـ الى محل بيع
ملابس تشوبه مشكلات قانونيَّة تتعلَّق بسند ملكيَّة،
ولن يعوض أرباح غشّه. أما الشقيق الأصغر فرهاد (محمد
علي محمدي) سائق سيارة الأجرة والمهووس بالمصارعة
الأميركية وكمال عضلاته ومتعه الشبابية، فهم خارج
حساباته. في حين، يرى منوشهر (بيمان معادي) وهو أكثرهم
ديناميكيَّة وتآمراً أنَّ خياره الوحيد هو مغادرة
البلاد نهائيَّاً (وهو ما ينجح بتحقيقه في نهاية
الفيلم) للعيش بشكل أفضل حتى وأن قادته مغامراته
ودسائسه، التي يصفها بإنَّها "ليست عملية إحتيال،
إنَّها مهنة" إلى طريق مسدود.
لن يَفُكَّ هؤلاء الثَّلاثة معضلة مال المشروع
وإطلاقه. وحدها ليلى المالكة لرؤيا مستقبليَّة، تكافح
بين معارفها لتأمينه، غافلة عن مفاجأة متعاظمة تنتظر
إنفجارها في وجه قناعاتها، وتهزم إرادتها التي
تستردُّها في مشهد ختاميّ مجيد، يحيل شوارع طهران
اللَّيليَّة الى فيض هائل من كآبة وندَّامات، فيما
يشعّ وجهها بألق نادر، هو الضياء ذاته الذي ختم به
روستايي باكورته "حياة ويوم" (2016) حين تعود بطلته
سُميَّة الى دراة العائلة رافضة زيجتها من ثريّ
أفغانيّ والتَّخلي عن جذرها.
******* |