"منْ لم يصل إلى حيث دفعه قلبه وسمح له عقله فهو أحمق"
(هاينريش هاينه) (1797 ـ 1856)
تضطرم الحماقات كما اللَظى في جديد المخرج والمؤلف
الألماني كريستيان بيتزولد "سماء حمراء" (أو حسب
عنوانه الإنكليزي "حريق")، الحائز على جائزة "الدُّبّ
الفضّي ـ الجائزة الكبرى للجنة التحكيم" في الدورة
الـ73 (16 ـ 26 فبراير/ شباط 2023) لمهرجان برلين
السينمائي، بين أربع شخصيَّات وسط طبيعة منعزلة لن
تتردَّد في فضح رزايا يتبارون بها في ما بينهم ضمن
مناورات ذات طابع لا أخلاقي. إن تحضُّرهم الاجتماعيّ
ليس ميزان سلوك تُقَاس عبره قيمهم العائليّة
والتشاركيَّة، لأنَّ كُلَّ فرد منهم يملك نزعات تؤكد
تسبيقاً مقصوداً لرغباته وطموحاته ومنافعه ومزاجه
وتأمُّلاته الباطنيَّة وفضوله.
هذه حكاية تقارب السُّلوك الأوروبيّ كسلعة ناقصة
الغايات، وكونها بلا استقامة أو اعتدال أو سداد. حين
نسمع أجيج نيران بعيدة تحاصر منتجعاً ألمانياً
والغابات المحيطة به عند شواطىء بحر البلطيق، تتحوَّل
أصواتها الى إيقاعات ضمنيَّة "تضبط" تحوُّلات مشهديات
ممسرحة بأناقة عالية، و"تُنظْم" معادلات هندسيَّة
بالغة الدّقَّة لمَضَرَّات تمارسها إرادات بشريّة ضمن
حيز صغير المساحة، خاو من الدّراما. حيوات تلتقي
كهوامش أدبيَّة مُقْتَطَعَة من نصّ روائي خائب، حاول
كتابته مؤلف بلا نعمة. تماما كما هو حال البطل الشاب
ليون (إداء متألق من توماس شوبرت) الذي يكابد من خوائه
وهزيمته المخفيَّة أمام رهان تسطير شيء مُجد على شاشة
جهازه المحمول، بدلاً من ذلك يبرع في خلق مسوّغاته بل
ويزجّ نفسه في منافسة مأفونة تكشف عن عجزه الجنسي.
توريات بيتزولد (1960) بين الإحباط والتَّنميط تتناثر
في كُلّ مكان حول أبطاله الأربعة لكنَّ من دون فجاجة
وأيضا من دون التَّألُّق الذي شعّ في "أوندين" (2020)،
المقطع الأول من ثلاثيته السينمائيّة حول الرومانسية
الألمانية والإبداع والحبّ. إنَّ عالم الكتابة
والتأليف هو وجه آخر لمواقعة جنسيَّة ناجحة ونافعة
لطرفين. ينتشي المؤلف مع أبطاله، ويصل الى ذروته
الحسّيَّة حين يجد إنه حرَّر قصّاً مجيداً ومبتكراً
لهم وعوالمهم وخواتيمهم، بيد أنَّ مَسَرَّاته تندحر
حين يَكْتَشف (أو يَكْشِف له الآخرون بصلافة) أنَّ
نصّه ليس سوى هُراء ومضيعة وقت وبؤس شخصيّ، غافلاً
طوال فترة التأليف أنَّ ما أفترضه لـ"مخلوقاته" هو
تنميط مبطَّن لعيشه الفارغ من حدث كبير. هذا بالضبط ما
يحدث للكاتب ليون، وهو شخص طيّب السريرة إلَّا أنَّ
حياته تسير على نمط واحد وبلا حيويَّة. نلتقي مع
تهاونه المتعاظم في مشهد افتتاحيّ سريع التوليف حين
"تُعاند" ماكنة سيارة تقله مع صديقه المقرَّب وطالب
الفنون فيليكس (لانغستن أويبيل) وهما متوجّهان الى
الدراة الريفيَّة لوالدته ليقضيا اعتكافاً صيفيّ
علامتيه استرخاء وإبداع، يتفرغان الى إنجاز مشروعيهما.
الأخير لكاتالوغ صور فوتوغرافيَّة، والأخر لاستكمال
رواية كوميديَّة عنوانها "نادي الساندويتش" (كلوب
ساندويتش)، يشي الاسم الى أنَّها قطعة من خُرْء، وهو
وصف سيقوله علناً ناشر روايته السابقة خلال مواجهة
لاحقة.
عطل السيارة عبر انفجار بطاريّتها، هو تورية لإحباط
لاحق يقع ليون في أسره حتى النهاية، إذ يصبح انكساره
فضيحة ذاتيّة حين تُمتحن قدرته على قبول أنثى غريبة
وتسيّدها في جغرافيّته ومحيطه وروتينه. يستعر لهيب
عداوته، كما هو الحريق الذي ينهب الغابات المحيطة
وحيواناتها ورعويتها، ضد ناديا (باولا بير) أستاذة
الأدب التي تعمل كبائعة آيس كريم خلال عطلتها والتي
يكتشف الصديقان أنَّ والدة فيليكس سمحت لها استخدام
المنزل من دون أن تشاركهما الرأي. شابة متحرّرة
وشبقيَّة لكنها شديدة التأقلم والأريحيّة، سرعان ما
يتوالف المصور معها وعشيقها الوسيم العامل كمراقب
شواطىء ديفيد (إينو ترِبس)، الذي يقصُّ مغامراته مع
عربي وسمه بأنه "شاذ" (مثلي) كنكتة، ويعد بشخصيّته
السهلة النقيض الحياتيّ لكاتب بيتزولد، لتبدأ جولة من
الألفة والطبخ والتّجوال والتعارف والترميمات والنشاط
الرياضي و....الكثير من مواقعات جنسية لن تجد منفذاً
الى شاشة صاحب "يلا" (2007) و"فينيكس" (2014) لكنها
ذات تأوّهات مِصْواته، تنبَّه ليون الى أنَّ الحياة من
حولنا لها دويّ حقيقيّ لا يمكن الهروب منه.
وحده ليون يغرق في نزقه وعزلته وإحباطه من تأسيس عِشرة
متكافئة مع أصحابه، وهو ما يتناقض مع منبته الطبقيّ
العماليّ الذي يفترض فيه النَّخوة والأُنس. إنَّ قسوته
مع الآخرين وتكراره عذره بوجوب إتمام عمله، و"ليس لديّ
وقت لهذا"، و"العمل لا يسمح بإضاعة وقتي"، و"لا بدّ لي
من البدء بالكتابة"، هي في مجملها رسم دراميّ لتنميط
مدروس يحدّد للمشاهد ملامح كائن متهوّر لا يريد
النَّظر مليّاً الى خيباته وأصولها، مستهدفاً شابة
تشاركه أصوله العماليّة (هناك تلميحات متكرّرة الى
جمهورية ألمانيا الديموقراطية السابقة قبل الوحدة
وجدارها السّيىء الصّيت) لكنَّها على النَّقيض منه
تمتلك شجاعة نادرة على التَّمتع بحياتها وانتظار فرصة
حصولها على منحة دراسية كي "ترتقي" طبقيّاً، ورغم
عداوة ليون لها يرضخ الى "مقلب" السّماح لها بقراءة
مخطوطته، بعد أنْ ردَّدت أمامه وبغنائيّة جارفة قصيدة
لهاينريش هاينه حول اليمن التي يختتمها بإعلان انتمائه
الشَّرقيّ بقوله: "قبيلتي هم أولئك الأطهار، الذين
يموتون أن عشقوا"، ما يسمح لها بسيطرة مطلقة على
حماقاته ونزقه. |