لا تخوم دراميّة لباكورة المغربي كمال لزرق "عصابات"
(94 د)، لأنَّ القهر المجتمعيّ بلا قرار أو منتهى. بشر
مهمَّشون، يمارسون جرائم صغيرة، يعيشون حياتهم وفقاً
لترتيب مصادفات، وتخطيط صفقات، وإبرام مهمات قذرة.
الحكاية بسيطة، أب وابنه وميتة غير مخطط لها. كائنان
مكلَّفان خطف شخص فاز بقمار "معركة كلاب" على غريم لن
يقبل الهزيمة، لينتهي جثة هامدة بين أيديهما. الحلُّ
في التَّخلص منها بأيَّ ثمن، وأن تدفن في أيّ مكان لا
يثير الرّيبة، أو يقود السلطات إليها.
الخطّ الدرامي العام، المغرق بإرَّتجاليته كتابة
وتمثيلاً، مطروق بيد أنَّ الخيارات المرئيَّة لدى
المخرج لزرق تحوُّل رؤيته القاتمة في ما يخص محيط
بطلين مهمومين بعثراتهما غير المتوقّعة، الى تورية
لسَقَر مغربي، تشتعل نيرانه في كل زاوية زقاق أو باحة
بيت فقير أو فضاءات عارية عند تخوم كازابلانكا. يلعب
الحيّز دوراً حاسماً في "الميزانسين" المغلف بظلمة ليل
عدائيّ وقاتم وألوان كابية وظلال وحشيَّة، مسقطاً نذره
وشتائمه وتحاملاته السياسيّة والأخلاقيّة وقيم العيب
الأسريّ المغيَّبة، على حظوظ شخصيَّات بائسة، وسلطة
شبه مُزَاحة عن الشاشة، وعداوات مستحكمة.
هناك مطاردات كثيرة لهذين الـ"كلبين" (إذا اعتمدنا
صيغة العنوان الفرنسي)، إنَّما تتمّ على يد أعوان
عصابات وليست قوات إنفاذ قانون. محنتهما مرتبطة بعالم
سفلي لا يرحم خطأ، أو يغفر قراراً يقود الجميع الى
هاوية. عليه، فإنَّ مشاهد "عصابات" يجد نفسه أسير
اتجاهات تقود الرجلين الى مزيد من التَّعسّر. إنَّ حسن
وعصام يهربان من فقرهما نحو وجهات لم يخطّطا لها، تزيد
من تعقيد وضعهما، وتجعل من طوقهما أكثر إحكاماً حول
عنقيهما. كُلّ مقصد يصلان اليه هو اختزال مسافة
قصاصهما.
لذا، فإنَّ دلالات الأمكنة لدى المخرج لزرق، تتعقَّد
برويَّة بصريَّة لافتة وديناميّة، تبدأ من باحة وشاحنة
متهالكة تحت شمس ساطعة، حين يتمّ تكليفهما بمهمَّة من
قبل رئيس زمرة مراهنات، وتنتهي بعراء مفتوح تحت ليل
تكسره أضواء مصابيح أعمدة شوارع مهجورة، وهما تحت خيار
عصي بين أب وابنه، على واحد منهما تحمُّل عاقبة سوء
تدبيرهما وطالعهما. يسعى العجوز الى "إفلات" ولده من
تصفية محتملة، فيما يصر الشاب على "أمانة" نطفته
والبقاء الى جانب والده والاشتراك في ضرائهما، ذلك
إنَّ كليهما بلا مستقبل في حالة انفراط ولائهما لبعض.
*****
يشدّد شريط لزرق (الدار البيضاء، 1984) على ذكوريَّته.
كثرة الرجال فيه مثيرة للشُّبهات بيد أنَّ الفحولة
الضارية تشاء التَّحكم بأزلامها كما العلَّات (أولاد
من أمّهات شتَّى ورجل واحد)، تطيع حاكماً واحداً هو
أقرب الى إبليس رث، محموم بجباية الدّم والمال الحرام.
كُلّ شخصيَّة رجوليَّة في "عصابات" (94 د) مرسومة
بأكثر الملامح غِلْظَة، تقول حواراتها بأصوات متحشرجة
ومزدرية وقطعيَّة وبلا روح. يحمل وجه حسن (أداء لافت
من الممثل الفطري عبد اللطيف مستوري) بأنفه المعوجّ
وذقنه الواسع وعينيه الضَّيقتين تعابير ابتئاس عميق،
كَوْن حياته لم تفلح في الفوز بـ"صيد" ثمين، يُنهي
فآقته ويأسه الاجتماعيّ، فيما تصبح سحنة عصام (الممثل
الفطري أيوب العيد) بوجهه المضغوط وعينيه الكبيرتين
وجبهته النَّافرة عنواناً لفئة شبابيَّة ملتَّاثة في
تحقيق مكسب سريع حتى لو تطلَّب الأمر سفك دَّم أو، في
حالته، دفن جثة أو تقطيعها أو رميها من دون قراءة سورة
الفاتحة كعقيدة وعادة إسلاميَّتين، يصرُّ الأب على
إتمامها كفرض إيماني وتعهَّد دينيّ، ما يعني أنَّ ورع
عصام غير أصيل، رغم إصراره على أنْ يكون شخصاً
مستقيماً الى أقصى حدّ. هذه نقطة جوهرية في عقيدة فيلم
كمال لزرق حيث إنَّ التَّقوى تتعاظم كقيمة لا
شعوريَّة، تمتحن بقوَّة خوف كائن خاطىء من فكرة عقاب
إلهيّ ولعناته عند ارتكاب زلَّة كبرى (الجريمة هنا) لا
يمكن تبريرها أو القبول بها. عن هذا يقول لزرق إنَّ
"بعض الناس في المغرب يمكن أن يقبلوا القيام بأشياء
ليست أخلاقيَّة للغاية من أجل البقاء، لكن تبريرها
بحجج الورع لا يزال شائعاً. حتى بين أكثر الناس
تعليماً". مشيراً الى أنَّ جملاً مثل "الله موجود
دايما"، "ليعيّنك الله"، "يلعنك الله"، "يرشدك الله"
وغيرها متجذّرة بكثرة في حوارات الفيلم الشَّعبيّة، ما
يضمن المفارقة وروح التَّهكم فيه، رغم أجوائه المعتمة
(مقابلة ضمن الملف الصحافيّ للشريط).
***** |