"بالطبع أنتم تفهمون. كنت أحبّ فنلندا، والآن حتى
أنَّني لا أحبّ نفسي. نحن نفقد كُلّ شيء: اللياقة
والأخلاق والتَّضامن وحتى سباق "الفورميلا وان"
للسيارات!. الأغبياء يقودون فنلندا"
(كوريسماكي في حديث صحافيّ، 1999)
السينما واشتغالاتها مرهونة لدى الفنلندي أكي
كاوريسماكي الى عقيدة "حد أدنى".
كُلَّ شيء لديه خاضع الى العاديَّة واليوميّ والسُّلوك
الشخصيّ الكسير. أبطاله بمجملهم هم آلات بشريّة
معطوبة، ومحيطهم متجرَّد من الحيويَّة. إستاتيكي برونق
لكنّه وضاعاته بيّنة. الشيء الوحيد المشعّ في عالمهم
هو الألوان البرَّاقة لملابسهم والجدران من حولهم، فهي
التَّعبير المستتر لعنفوان دواخلهم المقموعة، واقدراهم
التي يُعاندها التَّغيير وطفراته.
فنلندا كاوريسماكي، كبلد وقوم ونظام سياسيإجتماعي
وطرائق معيشة، تعاني من هيكليَّة متداعية، لأنَّ قيمها
فاسدة، لا ترتضي التّطور وبلا ثورة. مواطنها مرتهن الى
تكافؤ فرص ناقص، فهو ـ ككائن هامشي ـ بلا دوافع
حقيقيّة أو حظوظ أو كفاءة صنعة.
لا يسعى كاوريسماكي (1957) الى تدمير بنى، أو الدعوة
الى قلب أنظمة.
يملك، كمخرج خلّاق، قوى دراميّة هائلة، ووفرة نادرة من
فكاهة وتهكَّم، للنَّيل من تنظيم مؤسَّسي وبيروقراطيات
حكوميَّة، ومن ضمنها يمين سياسيّ وحشي وجشع ومأفون،
يتحاشى انخراطاً مجتمعيَّاً عادلاً، لظنونه بأنْ أي
إختراق (أو توريد) لوافدين غرباء، ممَّن يكلَّفون
بتسيير قطاعات خدميَّة أساسيَّة، سوف يخلّ بتراتبيَّة
اجتماعيّة مقدَّسة (وهي بالضرورة ذات قناعات عنصريّة)،
ما يجعل منها لعبة ماكرة في إبقاء سكونيَّة مجتمعية
تحت السيطرة والمراقبة الى أطول وقت، هذه ثيمة تطوَّرت
بسرعة في بصيرة صاحب "الجريمة والعقاب" (1983)، وأخذت
منحى اتهاميَّاً بالذات في "لا هوفر" (2011)، و"الجانب
الآخر من الأمل" (2017)، فيما يُظهر "غيوم تائهة"
(1996) موقفه من نظامي العمل والإعانات الخاصة
بالعاطلين، وتجردهما من التفاعل وغرقهما في بيروقراطية
متأصلة. لذا، فإنَّ حكاياته هي مرويَّات حزينة
لديستوبيا قطبيَّة، يختلط ليلها بنهارها تحت أجواء
ثلجية، وأخيارها مع أشرارهم في معاشرة اجتماعيَّة
مليئة بالمفارقات وملاماتها، العزلات وعنفها،
الهويَّات البخسة ومهاناتها، النَّأي الشَّخصيّ
وجروحه.
أساس سينما كاوريسماكي هي الطبقة العاملة، من دون أنْ
يعني أنَّه يصنع سينما متأثرة بأيديولوجيا متمَّركسة،
فالرجل اعتنق ما يسمّيه بـ"الفقر البوهيميّ"، مسايراً
بذلك معارضات أناركيَّة شبابيَّة عارمة ضد حزبيَّة
جامدة ليسار أرثوذكسيّ وقوميَّة شعبوية أكثر تزمتاً
وعدائيَّة، وساعياً الى "السخرية من الرُّوح
الاشتراكيّة الديموقراطيّة ونظرتها العالمية، وكذلك من
معايير السلوك بشكل عام" (حديث مع الناقد بيتر فون
باغ، 1984).
"البروليتاريا" لديه هي ضمير أمَّة يتعرَّض الى
مهانات مستدامة، تبدأ (1) من عواطف مهزومة لأفراد
يعيشون عُسْراً عائليّاً، تمثله حالة الشابة المستوحدة
إيريس في شريط "فتاة مصنع علب الكبريت" (1990) التي
تستغل في عملها، وأيضا من قبل والدتها وزوجها اللذين
يقضيان وقتهما أمام شاشة تلفزيون، تبث أحداث ساحة
تيانيمين في العاصمة الصينية. تقع ضحيَّة زلَّة جنسية
مع رجل عابر يرفض لاحقا أبوَّة طفلها، قبل أن تتعرَّض
الى حادث سيارة وتفقّد جنينها، لتقرّر الانتقام بتسميم
الجميع، ومواجهة قصَّاصها.
و(2) حيف إنسانيّ يجعل من الناس فرائس سهلة لظلم
متراكم، كما هو حال الشابة إيلونا المطرودة من عملها
في سوبرماركت في "ظلال في الجنة" (1986)، وعلاقتها
الرومانسيّة الخاسرة التي تجمعها مع رجل يُدعى
نيكاندار، يعمل منظّف حاويات قُمامة، يتعرّضان الى غبن
مستدام، يمتحن صدق مشاعرهما.
مروراً (3) بشعور قاتم يمنع التَّشارك الاجتماعي
باعتباره فعلاً تكافليَّاً وتحريضيَّاً، كما هو حال
الشاب تايستو الذي يفقد رزقه بعد إغلاق منجم في منطقة
لابلاند، لينتقل بسيارة والده المنتحر الى جنوب البلاد
بحثاً عن عمل جديد، لتسرق مدخراته على يد مجرمين،
يطارد أحدهما لاحقا، وتعتقله الشرطة بتهمة "الاعتداء
والسَّلب" عليه. قبل هذا بقليل، يتعرَّف على أمّ شابة
ووحيدة، ويقعان في الحب. تساعده لاحقا في الإفلات من
معتقله والهروب معا، من فنلندا كسجن موحش، الى المكسيك
لبدء حياة أكثر انصافاً وغبطة.
وتنتهي (4) بنزاهات مشوّهة، تقود مواطنيها نحو ما يمكن
نعته بـ"واقع ناقص" حيث المحبّات والوداد والمُهج لا
تكتمل إلا بعسر وضنك، كما هي حكاية بطلي جديد
كاوريسماكي "أوراق متساقطة"، الحائز على "جائزة لجنة
تحكيم" الدورة الـ76 (16 ـ 27 مايو 2023) لمهرجان كانّ
السينمائي، اللذين يواجهان كُلّ على حدَّة خيارات
حياتيَّة مؤودة، تجعل منهما أوراقاً بشريَّة تتيبَّس
من دون وجود صبوات وهوى.
في هذا العمل الرابع الذي يستكمل "ثلاثية
البروليتاريا"، ينتصر كاوريسماكي الى دعواه المجيدة
بشأن جماعيّة إنسانيَّة، تتعرَّض الى اغتيال ممنهج،
سواء من قبل نظام رأسماليّ شنيع، أو مضانّ حيوات
متقشّفة وبلا هناءة، أو عداوات أخرين تجعل المنفعة
المشتركة بين البشر عصيَّة على التَّحقّق. تخسر الشابة
أنسا عملها في متجر، بعد أن قُبض عليها متلبّسة
بـ"سرقة" علبة سردين تخطَّت تاريخ ّصلاحيَّة استخدامها
الآدميّ. أمام المسؤول تفشل في تبرير فعلتها، كي لا
تعترف بحاجتها الى مؤنة، تضعها في فرن ميكرويف، مستمعة
الى راديو قديم يبثّ أخباراً حول الحرب على أوكرانيا.
في شقتها، نكتشف معنى "الحد الأدنى" حيث إنَّ مكان
العيش الأوروبيّ، بالمنطق الكوريسماكي، لم يعد
مرفَّهاً ولا بدَّ من أنَّ يواجه كساده الحتميّ، وإنَّ
إنسانه يفقد بدوره حماساته للانتفاض ضد "مجاعته". محيط
حياديّ ورفوف فاضية وجدران عارية ما عدا من أضواء
وظلال، تضفي روحاً شعرية على عالم مدحور، نراه
متعاظماُ بكآباته في جميع أعمال كاوريسماكي.
أنسا هي كائن رقيق لكنَّه مبدّد، ينتظر فرصته في
الوقوع في الحبّ وعشرته، كونه السّبيل الوحيد للبراءة
من ضمور حياتي. هذه الإشارة البهيَّة وما توفر مع
نظائرها في المقاطع السابقة من الثلاثية، تستهدف
النمطي الدراميّ، وتخترق رتابته وتفجر المألوف فيه:
ازدهار حياة إيريس البائسة لفترة وجيزة. أن يجد
الثنائي إيلونا/ نيكاندار في عشقهما وسيلة للتَّخلص من
تبعات سرقة مال المتجر والإفلات من جرمها. أنْ يفلح
الخاسر تايستو/ والمغامرة إيرميلي في الفرار الى سبيل
اليَسَّر، حتى لو تطلب الأمر تزوير هويَّتهما
الفنلندية وإسقاطها، كون الوطنيَّة أصبحت مفهوماً
ثقافيَّاًّ متهرّئاً ليس ذا مكانة واعتبار.
هكذا، عندما يظنّ المشاهد النَّزق أنَّ الخط الحكائيّ
في سينما كاوريسماكي يكاد أن يكون واهياً وغُمْراً
وباهتاً وذا ثبات، يغفل حقيقة إنَّما هو أداة ناعمة
وضمنيَّة ومقصودة من المخرج لإسقاط النَّص كتأثير
معرفيّ، والبحث بتأن شديد في المرئيّ الغنيّ بتفاصيله
المكرَّرة مرَّة تلو الأخرى.
من هنا، أرى أنَّ قراءة ذلك الخطّ الحكائيّ مسبقاً
وقبل المشاهدة، يدفع المرء الفطن الى التَّمعن بمنظور
عام ودقيق الصَّنعة لنكهة فيلميّة، يسمّيها مبدعها
بـ"بوهيميَّة هجائيَّة"، وتحديداً سينوغرافيته
المتجرّدة من كثرة التفاصيل والمتطابقة عن عمد، وكذلك
إيحائيته الكئيبة عن قصد، في مقابل وفرة تلميحات بصرـ
صوتيَّة للثقافة الشعبية والموسيقى ("الروك أند رول"
و"التانغو" و"الأر أند بي" و"البلوز" بنسخها
الإنكليزية أوالمحلية مثلا)، وأيضا الاستشهاد بأفلام
معلّمي السينما العالمية، والتلميحات البليغة للصُّور
الفوتوغرافيّة، والاقتباسات الأدبيّة والاستعارات
الدقيقة من الأرشيف الغنائيّ الفنلندي التي غالبا ما
تقدم حيَّة، وغيرها. |