"القسوة هي الطريق الوحيد للخير" عن
رواية "السهم الزمني"
للبريطاني مارتن أَيمِس (1949 ـ 2023)
يؤفلم البريطاني جوناثَن غلَيزر، في شّريطه الرابع،
رواية مواطنه مارتن أَيمِس "منطقة الاهتمام" (2014)
متحاشياً تكييفها سينمائياً، أو "تصوير الكتاب" على
حدّ تعبيره، إنما يُنجز فيلماً من روحه، ساعياً الى أن
يكون شراراَ وليس إقتباساً. تجلَّت هذه العقيدة
وحصافتها في عمله الإشكاليّ السابق "تحت الجلد"
(2013)، حين أستلَّ خيطاً حكائيّاً فريداً من رواية
الهولندي ميشيل فابِر بالإسم نفسه، حول كائن فضائيّ
يتجسَّد كامرأة شبقة، تجوُّل في مدن إسكوتلندية لإغواء
شباب أصحّاء وخطفهم، قبل أنَّ تسلّمهم الى أعوان نقل
غامضين، من أجل سلبهم لحومهم وعنفوانهم.
نرى الرُّوبوت الآدميّ (الأميركية سكارليت جوهانسُن)
بباروكة قصيرة سوداء وشفاه سمينة مطليَّة بلون أحمر
قان، مرتدية بنطلون جينز مع جزمة كابوي أميركيّة. تقود
شاحنة بيضاء في شوارع مدينة غلاسكو، مهيّجة ضحاياها
بجسد فاتن داخل بيوت مهجورة، وتغرقهم في لُجّة سوادء
أبديَّة (في النص الأصلي مزرعة).
يُلغي غلَيزر (1965) أغلب الشَّخصيات الفضائيّة من
حولها، ويجرّد حكاياتهم من تفاصيل كثيرة، مركزاً
اهتمامه على اكتشاف الشّابة جسد مُنتحل لا يحمل ثُقباً
بين فخذيه. تختبر معاني استهدافه جنسيّاً بعملية
اغتصاب، وصولاً الى منتهاه حرقاً في غابة (في الرواية
حادث سيّارة!). بيد أن المخرج الشاب لن يلغي الجوهر
الأيديولوجيّ للرواية محافظاً على إشارات مرئيَّة حول
التَّحيُّز الجنسيّ ومهاناته، القسوة وجبروتها،
الغطرسة وعُسرها، الرَّحمة ومكرماتها، الانحلال
البيئيّ ومخاطره، مثلما صان دراميَّاً البعد
الميتافيزيقيّ للرواية، مشيّعاً روحاً فنطازية شديدة
الابتكار ولا تُضاهى.
*****
يتكرَّر الشَّطْب الباهر هذا في فيلم "منطقة الاهتمام"
(107 د)، الحائز على الجائزة الكبرى في الدورة الـ76
(16 ـ 27 مايو 2023) لمهرجان كانّ السينمائي،
وبراديكاليّة موسَّعة أصيلة، جعلت منه وحدة دراميَّة
وبصريَّة لا علاقة لها بكتاب أَيمس وخيوطه المتشعّبة،
وبالذَّات تهكّمه المبطّن بشأن خيانة زوجيَّة بين
ألمان غرباء في محيط أوشفيتز في شرق بولندا. بطلتها
زوجة قائد معسكر يهيم بها ضابط وافد، وقرار الزوج
تصفيتها على يد سجين يهوديّ من وحدة "زوندركوماندو"،
المكلَّفة بنقل جثث الضحايا اليهود، أمّا الى غرف
الغاز، أو نثر رمادهم في نهر. قبل أنْ ينتحر حسرة
لفشله في لعبة شرف، يخسرها كوحش أرضيّ عنوة!.
على شاشة غلَيزر يشعّ ابتكار رؤيويّ تجريبيّ لبيئة
عائليَّة مختلفة تماماً، محصَّنة في بقعة تحمل اسم
الكتاب/ الفيلم، وهي عبارة عن 40 كيلومتراً مربعاً
تحيط بمكان المحرقة عند ضواحي بلدة أوشفينتشم
الريفيّة. حيّز جغرافيّ أقرب الى فردوس برّي بكر.
يتحرك بين مروجه ووروده وأجماته وخمائله زوجان
وأطفالهما الخمسة وكثير من خدم يهود، ومثلهم مدبّري
منزل خشبيّ كبير، أقرب ببنائه الى قصر جرماني، شديد
الترتيب والنظافة والالتزام. الرجل هو قائد المعسكر
الرجيم، وله اسم أصلي: رودولف هوس (أو مستعار هو بول
دول حسب الرواية). عسكري، يومه مليء بمشاغل تطوير
هندسة أفران الهولوكوست، واجتماعات توسيع كفاءتها
وطاقتها، واتخاذ قرارات تجويد فعاليَّاتها، ذلك إنَّ
أعداد الذبائح في ازدياد، وواجب حرقهم لن يتراخى أو
يتريَّث أو ينتظر أو يرحم.
*****
يدير هذا النَّازي حليق الشعر الأشقر على الطريقة
الآريَّة (كريستيان فريدل) بيته ضمن قوانين بطريركيَّة
عسكريَّة صارمة. مواعيد نوم وأكل وترفيه محدَّدة، يقرأ
لأطفاله حكايات ساحرات غيرتل وأفرانهن الشهيرة في
المخيال الألماني. ينام هو وزوجته هيدفيتش في فراشين
منفصلين. لا يدخل غريب باحة البيت، ولا شيء من الطرف
الآخر للجدار مسموح له باختراق العائلة وعالمها، ولا
أحد يتجاوز حرمتها وتطامنها (هناك خلل واحد يتعلَّق
بالابنة البكر التي تعاني من أرق غريب، يجعلها أشبه
بطيف ليليّ ينوس بين حجرات الدارة المشؤومة، وكأنَّها
وعي مبطَّن تسحقه كوابيس جريمة جارية قرب مناماتها).
يتأكَّد من أقفال الأبواب وإطفاء الأنوار، فيما يؤدّي
الأجراء عملهم بصمت وبُروع، لا تسويف أو زلل أو هبطة.
هو راع وحامي وقلب أبويّ نادر وأنَّ عزَّ كلامه.
بزَّته النَّازية سنيَّة وجزمته نظيفة من الدماء
ولَّماعة، لا يخلعهما إلَّا مع اقتراب موعد رقاده.
مقابله، تتجسَّد هيدفيتش (الألمانية ساندرا هوللر
المعروفة بأدائها المميَّز في نصّ مواطنتها المخرجة
مارين أداَ "توني آردمان"، 2016) كسيدة محمومة بفضاء
دارتها، يدلعها زوجها بأنها "ملكة أوشفيتز"ّ!. أمّ
تدير "مصنعاً" نسويّاُ، عبر رحمها، لإنتاج ذرّيَّة
نازيَّة هم مستقبل الرَّايخ وعنوان استمراره وحماة
أزليته. كائن دنيويّ يراقب كلّ شيء بحنكة خبير، تارة
ترتَّب توزيع "أسلاب اليهود"، وأخرى تنظّم المآكل
وشؤون التَّوقيتات الأسريَّة، بيد أنَّ ولعها الأساسي
هو الاعتناء المفرط بحديقتها. نراها في المشهد
الافتتاحي جائلة مع والدتها الزائرة متفاخرة
بإنجازاتها "ما نبتغيه هو عند عتبة بابنا"، تقول لها
بنشوة، مشيرة الى شجيرات لبلاب وكرومها المتألقة
بلونها الأرجوانيّ القاني، والمتسلّقة جدار أسخم،
تعلوه حزمة أسلاك شائكة. هذه العجوز هي الوحيدة وسط
المشهد المضيء، تمتلك حدسها ورزانتها إنَّ ابنتها
إنَّما تعيش على حافَّة جحيمية، غافلة عن الرّعب
ومدياته من حولها، وإنَّ أهلها لا يسمعون صوت القتل
اليومي، ما يدفعها الى الهرب بسرعة، والاختفاء من نسيج
الحكاية. ولولا هذه الشخصية لأمكن القول إن هذه
السُّلالة بلا ماض أو أصول. إنها أنساب مخلوقة من أجل
التَّمتع بسعادة انجذاب عرقيّ، كما بينها المشهد
الإفتتاحيّ الخلَّاب، إذ نرى قوماً شديدي البياض
ينعمون بشمس وخضرة وأمان بري عارم عند ضفة نهر، ضمن
لقطة عامَّة مفتوحة، تستوعب جمالاً لا حد له، وكأنَّه
خُلق لهم وحدهم.
***** |