"الحقائق عنيدة" (لينين)
دقيق في صنعته. متقاصّ في تهمه. صبور في مَسْرَده.
ثلاث مزايا جعلت من "تشريح سقوط"، الحائز على جائزة
"السعفة الذهب" في الدورة الـ76 (16 ـ 27 مايو 2023)
لمهرجان كانّ السينمائي، وهو الشريط الرابع للمخرجة
الفرنسية جوستين ترييه (1978) أقرب الى كماله
السينمائي لولا قرارها في جعل نهايته أقلَّ وطأة على
بطلتها ساندرا، حين تُسقط المحكمة تهمة قتل زوج، لم
تتوصل المقاصة القضائية الى إثبات ما إذا كان رمى نفسه
من النافذة العليا لمنزلهما الريفيّ الواقع عند سفوح
جبال الألب الفرنسية، أو أن هناك من دفعه الى حتفه
غيلة.
يتألف نصّ ترييه (كتبته مع زوجها أرتور هراراي) من
ثلاثة مقاطع مرتَّبة حسب زمنها
(الحادثة ثم المحكمة ثم الإقرار القضائيّ)، وتأويلها
(العِشْرة العائليّة ثم العلاقة الأموميّة ثم الجندر
كتهمة تآمر)، وتقابلاتها الاجتماعيّة (الوالدان
وسرَّهما الخفيَّ ثم علاقة أم بفتاها ثم موقف الابن من
الخِزَايَة). لن تُفهم هذه المعادلات الإ حين يقرّر
مشاهدها إندماجه الأخلاقيّ مع بليَّة البطلة، ذلك أنَّ
ما نتابعه ليست حكاية مظالم لها، إنما يوميات كائن
يغفل الطامَّة التي في انتظاره، لذا تحرّضنا المخرجة
ترييه على مراقبة كلّ حركة تقوم بها سواء كانت في
مطبخها أو في غرفة ولدها، أو جالسة بلا حول أمام قضاة
قُطُوبين، أو واقفة أمام جثة زوجها مصروعة فوق ندف ثلج
ناصع البياض، ليصبح هذا اللون عنصراً أساسياً وحاسماً
في المرئية العامة التي صوَّرها الإغريقي سيمون
بيَوفيليس (في ثاني تعاون مع ترييه بعد "سيبيل"، 2019)
كتورية بصريّة على أنَّ المكان مهما كان سنيّاً، فلن
تفلته النَّوائب ودمائها وأوزارها. من هنا نفهم عودته
مرتين الى نافذة الدار الخشبي كي تتحرك كاميرته ببطء
شديد وتطلّ، عبر عيني ابن كفيف، على بقعة القرينة
النَّاقصة. في الأولى، نرى الدماء نزفت من رأس الضحية،
وفي الثانية "نظّفتها" الكتل البيضاء، وهي إشارة الى
أن عبء الإثبات سيكون محلّ افتراضات لن تنتهي، وأنْ
حسمت المحكمة قرارها، بمعنى أنَّنا لن نصل مع نهاية
شريط ترييه الى موقف دامغ حول مذنب غائب نُكول.
الى ذلك، فإن فصول التّحقيق مع الفتى ولاحقا المحاكمة
ووقائعها مع والدته يصلان الى ما يُسمّى قضائياًّ
بـ"التكييف النَّاقص للواقعة"، ما يؤدّى الى سقوط
الحقّ بالتَّقاضي الذي جعل منه عناد المدعي العام
قدراً ربَّانياً يكشف "سَّقطتها" كامرأة، يجب أن تأكل
سيرتها الظّنون. مشيراً بإلحاح الى أنَّ هناك أمراً
غير مفهوم يخصّ ردَّ فعلها ولا مراراتها بـ"الوقعة
الشديدة" لكيانها وعائلتها الصغيرة، وصولا الى إخفائها
ملابسات مشاجرة عنيفة بينها وزوجها قبل "مقتله"، وهي
حجَّة يبني عليها دعواه لاختراق حصانتها. هذه الأخيرة،
تتوفّر لساندرا (أداء متألق من ألمانية ساندرا هوللر)
من كونها مؤلفة روائية ناجحة وامرأة عصرية ألمانية
تعيش في وسط فرنسي (إشارة الى أجنبيتها)، متزوجة
بمواطن يدعى سَمويل (سَمويل تري)، هو بدوره كاتب يعاني
من ركود إبداعيّ، ينكب بسبب عطالته على إعادة تأهيل
الشَّاليه من أجل تأجيرها، وإسناد موارد أسرته. في ذلك
اليوم المشؤوم. يستمع الزوج الى موسيقى بصوت مرتفع
جداً، يثير حفيظة امرأته السّاعية الى إجراء مقابلة
صحافية، ما يدفعها الى الاعتذار من استكمالها. حين
تحاول أخذ قيلولتها، فإن الضّجة تمنعها من النوم، ولن
تجد سوى الإعتراض بحدَّة وغضب عارمين، لن تتيح المخرجة
ترييه، وبفطنة بليغة، عرض تفاصيلها لنا، بيد أنَّ
تداعياتها الصوتية تدفع الابن دانيال (ميلو ماتشادو
غرانر) البالغ من العمر 11 سنة الى المغادرة بصحبة كلب
العائلة من أجل نزهة سريعة.
يجعل هذا الابتعاد من الفتى شاهداً ذهبيّاً. يحاول أهل
القضاء "اصطياد" معلوماته حول مَنْ كان أكثر غضباً؟
وهل يتذكّر فحوى جدالهما؟ يصرّ على أنَّ ما جرى لم يكن
عراكاً، ويردّ بوهن حين يواجهه المحقّق بأنَّ ما حدث
وقع في الطابق الثاني وهو خارج البيت، فكيف يكون
متأكداً من ذلك، ليجيب "حينها، كنت أقف تحت النافذة
المفتوحة". اعتراف لن يحسم اللَّبس، ويحيد دانيال
باعتباره "شاهد سماعيّ"، وهي صفة الذي سمع بأُذنيه ما
يروي أو يدلي به في المحكمة. صور الثنائي ترييه/
بيَوفيليس هذا المقطع الجوهري بلقطة مقرَّبة جداً
(أكستريم كلوز أب) لوجه دانيال فقط، مستمعاً ومجيباً
لصوت محقّق مجهول، يتعاطى مع اليافع وكأنَّه محترف
غَرّ. نرى عينيه الكبيرتين الميّتتين، أثر حادث أفقده
البصر، توحيان بفصم عاطفي شخصي. يقول كلماته من دون
تعاطف وبلا دموع أسى. تواجه والدته مصيراً أسود لكنّه
يغلق مفاتيح مهجته، ولن يسعى الى الذَّود عنها
ونصرتها. كائن وَخِم رغم صغر سنّه. يجيب على الأسئلة
بصوت مُتحجّر ذي رنَّة خافتة، تجعل منه وكأنه متواطىء
بلعبة غدر، يسعى الى معرفة مآلاتها وخرابها. |