تناور كاميرة بينغ "الرصديَّة بامتياز" دوماً تضاريس
قاسية وهي "تطارد"هم. تدخَّل مهاجعهم وأماكن عملهم،
وتخترق المقاصف البائسة للهوهم، وتدور حول نقاط
تجمّعاتهم وتبادل تحرُّشاتهم، وتستمع الى شكاوى
نكباتهم، وكأنَّهم يكافحون لا مساواة ومحواً تاريخيّاً
يتربَّص بهم. وكما هو الخيار الحكائيّ للأميركي
وايزمَن الذي يجعل الجميع بلا استثناء أمام حكم
مشاهده، يصبح من الصَّعب إختيار فقرة ما أو وجه ما في
سينما بينغ، واتخاذهما نموذجاً دراميّاً يختزل مفهوم
"مواطن صيني". إنَّه "كُلّ الكُلّ"، أو كما ينعته
الفيلسوف الفرنسي جورج ديدى هوبرمان بـ"بشر متجردين،
شبيهين بممثّلين ثانويين (أكسترا)"، وهم داخل غرفة
تحميض للصور. هو/ هم حُزمة بروليتاريَّة متحرّكة
ونابضة بالحياة، ورغم ذلك يكشفون عن هزائمهم، لأنَّهم
أدوات إنتاج سريعة العطب، حتى في مشاعرهم وعنادهم
ومقاومتهم، وهم يقفون بلا حوَّل أمام التّغيير وقواه
الماحقة.
هذا الأخير (التَّغيير)، هو عصب عَرَامة ذاتيَّة تكتسح
حيوات جموع فتية صينيين في جديد بينغ "شبيبة"
(الرَّبيع)، المعروض ضمن المسابقة الرسمية للدورة
الـ76 (16 ـ 27 مايو 2023) لمهرجان كانّ السينمائي،
وهو مقطع أوَّل ذو أنفاس ديناميكيّة باهرة ومقدامة من
رباعيَّة فيلميَّة، تطلَّبت سنوات ست تصوير وإكمال
توليف. تستعير أجواءها من مواسم يمرُّون ويتمتَّعون
بها، وتعكس بدورها مزاجاً سينمائيّاً خاصاً لأحوال
سخرتهم وكدحها. عائلاتهم ومصائرها. أحلامهم ومُرادها.
استقلاليَّتهم ومبتغاها. عشقهم ومناوراته. أفكارهم
وتبصُّراتها...فراداتهم وتمايزها.
*****
هؤلاء هم جزء من ملايين الشباب الرّيفيّين، في سن
العشرين، الذين يتركون الأرض والأهل والقرية، ويفدون
الى المدن الكبيرة للتَّكسب في ورش، يبلغ عددها 20
ألفاً، لا تتوقف عن الإنتاج. بروليتاريو معامل النسيج
في مدينة شيلي المتاخمة لنظيرتها هوتشاو التي صوَّر
فيها بينغ شريطه السابق "مال مرير"
(فينيسيا، 2016).
أقنان نظام لا يرحم وغير مضمون، وساعات استغلال مضنية،
وأماكن أقرب الى سجون مكتظّة وبأجواء غير صحيَّة.
يضعنا الفيلم فوراً في المحنة وقلبها.
لا وقت يضيع في تقديم الشخصيَّات أو محيطها أو
ارتباطاتها أو مراتبها. يأتي هذا كُلّه ضمن فصول من 20
دقيقة، تعرض لنا حال يومي معيّن، نلملم منه ـ وبعد 212
دقيقة ـ عناصر صورة كاملة، تُعرّفنا على فريق يافع، من
بين 300 ألف عامل، أتوا من أرياف مختلفة، محمّلين
بآمال تحقيق ثروة صغيرة، قبل أن يعودوا ثانية الى
أسرهم وفلاحتهم.
ما نختبره كمشاهدين هو عبوديَّة موصوفة ومحميَّة
ذاتيَّاً بشكل غير علنيّ، وتخضع الى مراقبة أمنيَّة
مشدَّدة، كوَّنها ورشاً تُدار من قبل شراكات عائليَّة
(كارتلات لا علاقة لها بالدولة). لا مجال فيها لعصيان
أو انتقاد أو تجمّع نقابيّ. همُّ كتلة عمل، يمارسونه
انطلاقاُ من حاجاتهم وليس من باب حقوقهم. لذا، فهم
مرتبطون بمَكَنات يجب ألَّا تتوقَّف حتى انتهاء
الموسم. عقيدة بينغ في "المعايشة التوثيقيَّة" تأتي
بثمارها المعرفيّة بسرعة وحصافة، عبر مونتاج سينمائيّ
محسوب وتتابعي. فالمجموعة المتباينة الأصول والأعراق
التي لا تغادر ورشة، هي جزء من مكان متعدّد الطوابق
ضمن حيّ صناعيّ متهالك، تدور كاميرا محمولة وحماسيَّة
بين ممراته. تتابع وتسجّل كُلّ فعل حياتيّ يقومون به.
مع تراكمه، نكتشف خلفيَّاتهم وخططهم في أنَّ يكونوا
قادرين يوماً ما على تربية طفل أو شراء منزل أو إنشاء
ورشة عمل خاصة بهم، إضافة الى مديات تقاربهم الوجداني
وتآمراتهم. عبر كلام متدفّق ولهجات متداخلة وتوصيفات
لغويَّة شديدة المحليّة يستخدمونها، تصبح الورشة ـ
ومعها الفيلم ـ بمثابة مسرح حيّ بإنارة اصطناعيَّة،
تجعل من وجوه الشابات والشبان محنَّطة وسقيمة وذات
تعابير روبوتيَّة.
*****
إن الخشية من العقاب تدفعهم الى الامتثال الى تراتب
إداريّ، هو في واقع الحال تعبير آخر لسلطة متخفّية في
مكان ما. همُّ جميعاً يرونها ويهابونها لكنَّ بينغ لن
يكشفها لنا، إنَّما يُضخّم هاجسنا بها مع مرور وقت
شريطه. وهي تقنيَّة تُذكر بحسيَّة مركَّبة أثقلت نصّه
"الحفرة"
(2010) في ما يتعلَّق بـ"تواجد" رجل نفوذ بين معتقلي
أعمال شاقَّة من منفيّين سياسيّين في صحراء كوبي
إبَّان الحقبة الماويَّة (1960). يتعاظم قهر هذه
الحسيَّة المستترة لاحقاً في "الأنْفُس الميّتة"
(كانّ، 2018)، ونحن نتابع بأسى عارم شهادات أَسَارَى
ناجين من معسكرات الذّل الشيوعيّ في صحراء غانسو أواخر
خمسينيَّات القرن الماضي. في "شبيبة" (الرَّبيع) هناك
"معتقلات" اقتصاديَّة من نوع حداثيّ، لكن من دون نوافذ
تبيَّن وقت اليوم الواحد. يتم فيها إعادة تأهيل الأف
منهم بشكل ميكانيكيّ للتعامل مع مَكَنات خياطة، وترتيب
حاصلهم الإنتاجيَّ بروح معسكر حزبيّ، وهم يستمعون الى
موسيقى راقصة ويثرثرون ويتغازلون أو يتضاربون
ويتمازحون. حين يصحبنا بينغ الى عالمهم الخارجيّ، لا
نرى سوى مقهى إنترنت بائس، أو حانوت بإضاءة كامدة، أو
زقاق وضيع يؤدّي الى مهاجع أكثر رَذَالَة.
إنَّ الملمس الزَّمنيّ للمحيط، يستكمل عزلات تحيط
بنفوسهم أكثر من أجسادهم. مواطنون تحت وطأة حاجة،
يرتضون حياة كفاف، تقودهم في الفصل الختامي الى فورة
غير متوقَّعة، حين ينظّمون "هجمة" ضدّ وكلاء الإدارة
سعياً الى تصحيح أجورهم وتحسين ظروف "العمل بلا
كَلَل". هنا، يٌعلن صاحب "ثلاث شقيقات" (2012)
انحيازه الى انتفاضتهم، موثَّقاً تفاصيل صراع غير
متكافئ بين قوَّة احتكار خبيث مقابل قوَّة عمل لا تملك
سوى إصرارها الريفيّ ووعيها الإجتماعيّ. نشهد بلقطة
طويلة جلسات تخطيط الشبيبة مقابل تهديدات أزلام
المالكين (إحداها يتعلق بفضح حمل سفّاح لصبية عاملة،
ومحاولة إغواء والديها على إجهاضها لضمان عودتها الى
وظيفتها)، التي في الغالب ما تؤدي الى حالات محن
ذاتيَّة لا تُطاق، تدفع بعضهم الى خسارة العودة الى
أهاليهم (وهي موضوع القسم الثاني من عمل بينغ)، كونهم
يختارون ببساطة الانتحار سبيلاً لإنهاء شقائهم.
فرادة سينما بينغ تكمن في بساطتها الشديدة وأصالة
دوافعها، بيد أنَّها تتطلّب مشاهداً مُتحمِلاً
وجَلُوداً وفضولياً وعلى قدر وافر من التَفَكُّر
والإيمان بالشرط الإنسانيَّ، فاهتماماته بالعلاقات
الرابطة بين النَّاس العاديين ببعضهم، ومع أفراد أسرهم
هي عصب مضيء في فلسفته السينمائيَّة، الأمر الذي يُفسر
"تآمره" العنيد على جعل حكاياته "تنمو خارج سيطرتي"
كما يقول، "لأنَّني إن وضعتها ضمن خطَّة مسبقة، فسأكون
قد سجنتها!". |