عودة مهرجان الجونة السينمائي في دورته السادسة (27
أكتوبر
ـ
02
نوفمبر
2023) هي ضرورة في ذروتها، وقيمة أخلاقيَّة
في رهانها الأكبر. الأولى، لأنَّ المشهد السينمائيّ
العربيّ الذي يشهد هبة إنتاجيَّة، بغض النَّظر عن
أوزان الكثير منها، يحتاج الى منصَّة مستقلة وغير
خاضعة لإهواء رسميَّة أو تحاسب أو تنابز، بل وحتى ذلك
الهاجس الخفي بشأن إستثماره في الأساس كسوق عروض
تتكسَّب مالياً، وهي علَّة غالبية مهرجانات السينما في
العالم العربي التي تعثَّرت، لأنًّ أهل الحكم يرون
فيها مضيعة دراهم!.
يبدو الجونة في هذا المضمار فريداً في موقعه وميزانيته
وإدارته بل وحتى ملكيته كون صبغة الإستقلالية طاغية
عليه من موقعه (منتجع بحري) والى دفوعات تنظيمه (مال
عائلي)، وهما قطبان يجعلان منه لُزوم آمن للجمهرة
السينمائية العربية على إعتبار تشبُّثه باللا إستئثار
والحماسة لتكريس روح التَّجديد والشَّبابية. الثانية،
وهي الأخطر لأنَّ مهرجان مثل "الجونة" يجب ويحتم عليه
كفعل إبداعيّ وليس سلة عروض وحسب، أنْ يبقي حيَّاً
وديناميكيَّاً ومتجدداً ومتجذّراً بأيّ ثمن بإعتباره
بوابة مناصرة وإكتشاف ودعوم لجيل سينمائي فتيّ نحن
بأمسّ الحاجة اليه. جيل، يحيط به مال مشبوه وتسبيقات
إيديولوجيَّة لئيمة. سيكون من المفيد التَّذكير بما
شهدناه في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي حين كان
التَّنابز ذو النَّزعة الزبائنيَّة مهموماً بالتَّحاكم
القومجي السائد آنذاك حول علَّة "العالميَّة" وإختراق
أسواقها وجوائزها، وكاد في أحايين كثيرة يصل الى
التَّشكيك، قبل أن يحزم أمره ويشتم قلّة الموهبة ونقص
العيار السينمائيّ. البعض منهم تحامل على بيروقراطية
مؤسسات، وآخر طعن بمرتزقة إنتاج، وثالث ذهب الى
التَّنظير بشأن ذائقة عربية وتخلفها الثقافيّ
والبصريّ، ووقوعها تحت سطوة قوَّة إجتماعيَّة قابضة!.
لم تتحقَّق تلك العالمية وقتذاك على نطاق يدعو الى
التفاؤل، لأنها بقيت لفترة طويلة رهن جهود فردية بحتة
لمجموعات سينمائية متشظّية جغرافياً وولائياً، فيما
شكَّل غياب الدولة ضربة حاسمة لنهضة السينما، وما فشل
القطاع العام وتجاربه هنا وهناك سوى نعوة مستترة لما
كان يسمَّى بالبديل (سينما وجيل وصنعة).
وحدها مهرجانات ما بعد التسعينيات جاءت بيقين
جديد...صناديق الدعوم!، وهي تجربة تستحق دراسات
مستفيضة لمآلاتها وإنعكاساتها وما فعلته بالتجييل
الحالي. لن يخرج "الجونة" من عباءة هذا اليقين إذ إن
منصّته وجسره ومنطلقه وسوقه ومبادرته للشباب برمَّتها
(كما كانت نظيراتها في أبو ظبي ودبي وحاليا القاهرة
ومراكش كمهرجانات أساسية) تجعل من كلمات مثل تمكين
وتطوير إمكانات وترويج وتوفير موارد وغيرها، خريطة
طريق مثاليَّة وذات زخم للسينمائيين الواعدين
والمخضرمين ومشاريعهم وتشجيعهم على "التّواصل وبناء
العلاقات بين صانعي الأفلام والموزعين ووكلاء المبيعات
والمستثمرين وغيرهم من الكيانات الرئيسية"، وهذا حدّ
أدنى يُستكمل لاحقا بمنصَّات أخرى رديفة ذات تواجد
عالمي مثل "فاينل كت" في فينيسيا، أو خانات عروض
وجوائز "كانّ" أو "البرلينالة" ومثيلاتهما في عواصم
أوروبية نافذة، من دون أن نغفل وصول كثر منهم الى
جوائز الأوسكار. تتحقّق العالميَّة ، وهي كلمة مخادعة
ومطّاطة وخبيثة، حين يستقطب الفيلم العربي جمهوراً
أجنبياً معتبراً له، أي أنْ تصبح صناديق الدعوم وسيلة
منهجية أكبر، تستهدف المشاهدة ايضا وتوفرها ضمن توزيع
دوليّ منظَّم ومدروس وذي ديمومة. في ظنّي أنَّ
"الجونة" قادر على تحقيق ذلك، وأنْ يصبح مؤسسة متكاملة
لها أذرعها في جهات العالم الأربع. وهذا يوصّلنا الى
نقطة أكثر حساسية عبر اسئلة شائكة تالية:
هل مهرجانات السينما العربية حقاً في تنافس ولصالح
مَنْ؟
مَنْ يقرّر أنَّ شريطاً ما عُرض في هذا الركن العربي
يُسقِط حقّ رواد الركن الأخر من مشاهدته؟
هل فلوس المهرجانات العربية سطوة أمّ وسيلة تفاعلات
مشتركة بين صناديق دعومها؟ هل هذه الأخيرة أدوات
للإستحواذ على العناوين والحقوق والتَّسبيق؟
هناك عشرات الإستفسارات الحرجة التي نتجاهلها لإسباب
كثيرة، أولها الشّجاعة ونقصها، بيد أنَّ ما هو مؤكَّد
أنَّ المهرجانات ـ مهما كانت حجومها وشعاراتها وفرقها
ـ ضرورة، بغضّ النَّظر عن دوافعها، وهي في رأينا
إعانات ثقافيَّة تعزّز إنقلاب الذَّائقة البصريَّة
العامة (أو الشعبية)، وتحشد الحميّة في مقاربة
جماعيَّتنا وروابطنا، وفوقهما شرطنا الإنسانيّ الذي
يعاني إختراقات جسيمة، وتفكيك منظَّم، وتسفيل غادر.
*****
في عناوين المسابقة الرسمية للدورة السادسة (15 فيلماً
روائياً طويلاً)، التي ترأس لجنة تحكيمها صاحبة "الى
أين تذهبين يا عايدة؟" (النجمة الذهبية للجونة، 2020)
البوسنية ياسميلا زبانيتش، وفرة من حكايات مميَّزة
تدارست درامياً الشَّرط أعلاه بمحنه وخيباتها، برزاياه
وبلاويها، بعِشْرَاته وفروضها، بشرور كائناته
ومصائبهم. لعلّ باكورة السوداني محمد كردفاني "وداعا
جوليا" (120 د) إنموذجاً سينمائيَّاً حكيما للخَطْب
الشَّخصي الذي يجعل من حياة زوجة شابة ضراماً، يضعها
وجها لوجه مع خطاياها. قصة منى ـ وهي مغنية سودانية
تخلت عن فنها بسبب الزواج ـ تتسبَّب في مقتل رجل غريب
قادم من الجنوب، وتتستَّر على الجريمة، قبل أن يدفعها
ذنبها الى التَّقرب من أرملته جوليا وطفلها في محاولة
للتَّطهُّر من إثمها، على خلفيَّة تصاعد تظاهرات وفوضى
سياسية في البلاد.
تظهر تلك الفوضى في الشريط الرابع للمخرجة الفرنسية
جوستين ترييه "تشريح سقوط" (151 د) ولكن بشكل مكتوم
بين أمّ وابنها المصاب بعمى جزئيّ بإعتباره شاهداً
ذهبيَّاً لتأكيد براءتها من تهمة قتل زوجها الذي عثر
عليه ميتاً خارج المنزل العائلي في جبال الألب، فهل
ينتصر الى والدته أم يحقّق إنتقاماً لحقد دفين تجاهها؟
(أنظر مقالنا في موقع "سينماتك"، 29 أيار 2023). تعود
هذه الثنائية في شريط السلوفانية هانا شلاك "ولا حتى
كلمة واحدة" (87 د) لـ"تستكشف فروقاً حساسة في علاقة
أمّ وابنها، حين يصبح هذا الأخير ضحيَّة شكوكها في
تورّطه ـ بشكل أو أخر ـ بموت زميلة له في المدرسة.
يتعاظم هذا الخط العام في محتواه النفسي مع مقاربة
مفهوم الإلتزام الشَّخصي للوالدين، وعواقب صمت يحيط
بحادث عنيف. نينا بلاتشك موسيقية ذائعة الصيت، وتقود
أوركسترا برلين الفيلهارمونية، تستعد الى تقديم
السمفونية الخامسة للموسيقار النمسوي جوستاف ماهلر
(1860 ـ 1911). خلال التَّدريبات يتم اعلامها بإصابة
ابنها بعد حادث سقوط مزعوم من نافذة قسمه الدراسي،
ادعى إنه في صدد إصلاحها. بين فاجعة موت الصبية الغامض
وتنمَّر الفتى، تُزيح نينا التزامها المهني جانباً،
وتسافر معه الى بيت العائلة البحري في جزيرة نائية.
وسط طبيعة خلّاقة وصمت ربَّاني مجيد، يأخذ سوء الفهم
بينهما سبيلاً غليظاً، يحول علاقاتهما الى منابزة في
المهانة والتسلط والضيق والجَهَامَة الفردية".
فيما تجسّد الممثلة اللوكسمبورغية الموهوبة فيكي كريبس
في شريط صاحب "إن سورياتا" (2017) البلجيكي فيليب فان
ليو "الجدار" (96 د) شخصية ضابطة حدود أميركية شديد
الحماسة لعملها وملتزمة بتعليمات مرؤوسيها تُدعى
جيسيكا كوملي، تفقد السيطرة وتقتل مهاجراً مكسيكياً
مسالماً أمام ثلاثة شهود، لتسعى بكل الوسائل الى تغطية
جريمتها.
***** |