زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

 

"وجهات" للبلغاري ستيفن كومندايف..

ميثولوجيا المكائد

بقلم: زياد الخزاعي

  

سوداويّ بأقدار شخصياته الـ6. إستفزازيّ بمشهدياته الليلية العصيبة. قاتم برؤيته لأحوال بلد يشهد إنهياراً عاصفاً، في قيمه ونُظمه وإيمانه، ومثلها التعميم غير المنصف لفقر بشره وفسادهم، وإنانياتهم التي لا ترحم.

يُنسّق "وجهات" (113 دقيقية) للبلغاري ستيفن كومندايف،  خطاياه الإجتماعية كلعنات سينمائية متتابعة، ذات نهج مسيّس إنتقاديّ ضد غدر يوميّ، تجري مآسيه في شوارع عاصمة أحد أفقر بلاد أوروبا الشرقية وأحيائها، بلغاريا. وجد قادة ومتحزبو مرحلتها لما بعد إنهيار "الجمهورية الشعبية"(1946)، ضآلتهم في رموز رأسمالية كاسحة ومظاهرها وعطاياها، كملاذ للنهب والإسترقاق السياسي، سبق أن شاهدنا فصولاً شديدة التهكم على نزعاتهم (القادة)، في العمل الباهر للثنائي البلغاري كريستينا غروزيفا وبيتر فلشانوف "غلوري"(سلافا)، عندما تتحول صدفة عابرة الى خزي وهوان إنسانيين، بطلها عامل صيانة في السكك الحديدية الوطنية. رجل مستوحد ومغبون، يعثر على رزم مال منثور على خط ثانوي، وبدلاَ من الإستحواذ عليها، يرتكب "خطيئته" في الإبلاغ  عنها، لسلطات متخلفة رغم أوروبيتها. لن يتوانى غيلانها عن إستغلال فعلته، في ترتيب دعايات سلطوية مستهترة، ومفعمة برّياء سياسي، وخداع إعلامي.

يواجه العامل زينكو في "غلوري"، المتمسك بتفانيه لعمله ودقة مواعيده، ظلماً يحوّله في نهاية المطاف الى منتفض شرس، وهو الفعل الفظّ ذاته الذي يمارسه بطل أحد مقاطع شّريط "وجهات"، عندما يهدده مصرفي جشع وبلا رحمة، بمصادرة بيته ومصنعه الصغير، ثمناً لإستحقاق إئتماني. يحَقّره بجملة، تعكس لا أخلاقية متسيّدة في بلغاريا اليوم: "نحن سنينا القوانين من أجلنا وليس لإمثالك. هنا، نحن سادة هذه البلاد".

ما يُقدِم عليه ميشو (فاسيل فاسيلييف ـ زوكا) المرعوب بخساراته وقتله غريمه، إنما هو فعل يأس وإنهيار صمود، فحجته ساقطة إزاء "دراكولا مالي"، يتباهى بجوره. تجري الجريمة في شارع فرعي، كشأن ثانوي وشديد الإعتيادية. بيد ان ميشو لن يستكفي مصيره برصاصات يوجهها الى صدر "مستبده"، بل سيطلق واحدة أخرى في رأسه، وهو داخل سيارة أجرة يملكها، تُشكّل غطاء مالياً إضافياً لتعليم إبنته المراهقة!.

تنقلنا ميتة هذا المُستَذلّ، مباشرة الى 5 حكايات أخرى، لأمثاله من سائقي سيارات أجرة تحت ليل صوفيا. هم شهود كومندايف على شفاعات يومية محاصرة ومخذولة، تتراكم على مقاعد "تاكسياتهم" كإعترافات ومهانات. ركابها بشر متنوعون. يتركون مقاطعهم السينمائية بخواتيم ناقصة. بعضها مرير، وأخرى كئيب، وثالثة تتحلى بنفس فكاهي، ورابعة مفعمة برجاءات. هم عابرو سبيل، ومستعجلو وجهات، ومحتالو وقت، ومُصِرّفو أوجاع وشكاوى وأسرار ونيّات سوداء. وجهاتهم تتقاطع بكثير من الغرابة، والقليل من الأُنس، مثلما هي مصائرهم التي يستند اليها صاحب "الحُكم"(2014)، ليستعرض فوارق عميقة، تخالف بين الناس، لكنها لا تمنع من وقوعهم جميعا، وهم عاجزون، تحت قضاء ربّاني واحد.

عليه، سينبض قلب المنتحر ميشو، لاحقا، في صدر خباز عاطل عن العمل يدعى نيكولا. يوصله الى النجاة، رجل يخبره، بأنه يعظ المؤمنين صباحاً كقسّ، وينقلهم ليلاً كسائق "تاكسي"!. قبل ان يتخاصما حول قدر "يجعل من بناتنا عاهرات وأولادنا مجرمين". ويتساجلا بشأن سؤال لئيم: "أين هو، حينما نفقد إحساسنا بوجهاتنا؟". نتعرف على جراح قلب مكلف بعملية نيكولا، وهو في طريقه الى المستشفى، داخل "تاكسي" السائقة رادا(إيريني زامبوناس)، التي تسأله:"هل يمكن ان ننقذ بلغاريا بزرع قلبا جديدا؟". يجيبها مع إعلانه، أن هذه آخر مهمة طبية له، قبل هجرته الى هامبورغ: "لا أمل. يمكنك إنقاذ جسد، لكن ليس جثة".

لا تخشى هذه الكينونات المساحات الضيقة لمناوراتها، طلما أنها قادرة على الإحتفاظ بهامش حريات شخصية، تمكنها من أخذ مبادرات ذات طابع غير متوقّع. فعندما يفشل السائق زورو من جذب إهتمام راكبة حسناء، يجد نفسه مُنقذاً لإستاذ مدرسة، يسعى الى الإنتحار، نتيجة إستخفاف طلابه به، عبر وسائل التواصل الإجتماعي. أما العجوز كوستا الذي يعاني من صدود الأخرين، وعدم إحترامهم لمأساته بموت إبنه اليافع، فيجد سلواه في إسعاف كلب ضال.

فيلم كومندايف، الذي يقارن بسرعة مع منجز الأميركي جيم جارموش "ليلة على الأرض"(1991)، مع إختلافات حاسمة في خياراتهما الدرامية، وتوجهاتهما الإيديولوجية، يستفيد من موضة كاميرا محمولة، وثّقت مشهديات مُطوّلة لليل مدينة كابية، وعدائيات بشره التي تقود الشابة رادا الى الإنتقام من مسؤول سابق، فوّت فرصة إكمال دراساتها العليا في روما، بعدما لجمت إغواءاته الجنسية. ومثلها، إقدام زميلها ميتكو على تزوير عداد سيارته، للنيل مالياً من سياسي نافذ وفاسد. نصّ "وجهات"، مكتوب كميثولوجيا مكائد، تقع سيراتها في مدينة لم يشفع لها، حمل أسم قديسة، كي تجترح لها معجزات، تُنتهي أحلاماً مفتتّة وعجزاً وعنفاً، يطال ضحايا بؤس وفشل وتدنيّ. معجزات، يبدو انها تناست قصداً الفروقات بين خير وشر، ليصل كومندايف الى نتيجة ماكرة، وضعها عنواناً موازياً لعمله، تعتبر ان "بلغاريا بلد متفائل. بيد ان كل المتشائمين والواقعيين غادروه منذ زمن بعيد"!.

سينماتك في ـ  20 فبراير 2018

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2017)