زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

 

"العقار" لألكس باترسن ومونس مونسون..

ميراث الظُلمَة

بقلم: زياد الخزاعي

شّريط معقود، برُمَّته، على تألق ممثلة غير محترفة، وحضورها الهادر، تدعى ليانور إيكستراند، هي عمّة كاتب سيناريو "العقار"، والمخرج المُشارك، ألكس باترسن(1979). لولاها، تصبح جيلانات امرأة عجوز بين شقق بناية، ورثتها عن أبيها، وسط العاصمة أستوكهولم، من دون طعم سينمائي، أوعلى الأقل، تتراكم حكاياتها على الشاشة بفصول مملّة ومُنسّقة، حسب منطق حياديّ، وبلا روح.

ما فعله تجسيدها المرن والديناميكي لكائن عنيد، ولمصائره ومغامراته ووقائع حشريّته وفورات تسلّطه، ثوّر سرديّة الفيلم، ناقلاً اياها من فعل مكرور حول عقود إيجار، وقانونية سكن قاطني عمارة هرِمة، الى جلسات معمقة حول رذالات بشر وخطاياهم، وخساسات منتفعين ومتأمرين بلا حُرمات، ومهانات أناس هامشيين، يحتال عليهم القانون ويستعبدهم، ولؤم كواسر رأسمالية وضغائنها، التي تظن ان سطوها على مِلكيّات، ونهب ريعها، يهَوّن لها قهر مَنْ تشاء.

الى ذلك، فرض إداء إيكستراند تبدّلاً حاسماً في روح النصّ، حاشداً فيها طراوة وشبابية. تصبح العصرنة، بفوراتها الأخلاقية، وإيقاعاتها المجنونة، وهتكها المُنظّم للأعراف والقيم، وخروقاتها الإيديولوجية، مسوغات لمواجهة نظم مداهنة، وقهرية، وإقصائية، وكيدية. وبسببها (العصرنة)، إنتخب المخرجان ألكس باترسن ومونس مونسون(1982)، الكوميديا كخطاب هجائي وصلف وتدميري، لمحنة السيدة نييت، العائدة من فردوسها الإسباني الى أرض أسوج وصقيعها، سائران بذلك على خطى كل من لوكاس موديسون في "معا"(2000)، الذي إحتفى بمجموعة يسارية وعائلات أفرادها، تقرر إستعادة وجدان الكومونة الشيوعية وأمجادها، عبر تأسيس قرينة لها في السبعينات السويدية، كبديل عن أنانية شائعة، وإنغلاق جارف. وأيضا، روبن أوسلوند في "المربع"(2017) بشخصياته الغارقة في تَبَجُّحاتها بسلوك برجوازي مُنَفّر، لن يعصمها من إرتكاب حماقاتها بصورة مخجلة وغير متوقعة. وزميلتهما غابريلا بيشلر في "كُلّ نم مت"(2012) الذي قارب عنصريّة متعاظمة، تفرض على الفتاة المسلمة "رشا" القادمة من "جمهورية الجبل الأسود" ووالدها المقعد، نبذاً جماعياً مجحفاً وسوريالياً.

ما أختلف فيه فيلم "العقار"، الذي عُرض ضمن المسابقة الرسمية في الدورة الـ68(15 – 25 فبراير 2018) لمهرجان برلين السينمائي، ذهابه نحو مغامرات ذات آفاق أوسع وخفة أغْزَر، معزّزاً مقاطعها بموسيقى شعبية صاخبة، وحشد غنائي عاصف، كرسها كرفقة سّماعية باهرة، يتوازى حضورها مع كل إنقلاب، يخترق شخصية الإبنة العجوز، التي تبدأ رحلتها الطويلة في "قلب الظُلمَة"(1902) حسب عنوان رواية الكاتب جوزف كونراد، بتوجس من سوء ظنون المستأجرين بشخصيتها ودوافعها، فتبدأ جملتها دائما بـ"أنا وارثة المُلْك"، كإقرار بحسن نواياها، قبل ان تتكشف لها حقيقة إبتزاز نذل، يمارسه أخوها غير الشقيق وابنه الفاسد والكسول كريس ـ الذي جسده الشاب كريستيان سالدرت، وهو أحد كبار مافيا العقارات في العاصمة السويدية. عمل، ضمن طاقم الفيلم، كمستشار، قبل ان يقتنع بإداء شخصيته الحقيقية ـ وتنكيلهما المنظم بعائلات منكوبة، "تستعمر" الطابق السابع، وتحايلهم الدؤوب على القانون.

العجوز نييت(68 عاما) سيدة وحيدة وعزباء. لا يُعرّف الشريط بمحيطها السابق، أو تفاصيل عن حياتها في منفاها الصيفي، سوى إنها كانت تعتاش على علاوة شهرية.  نتابع مسارات غرقها في وحدتها السويدية، وهي ساعية لإيجاد مخرج متوازن لصفقة بيع العقار، بمساعدة محامي والدها الراحل. تُفخّم كاميرا المخرج مونس مونسون حصارها عبر تصوير طلّتها الوحشية بلقطات مقرّبة جدا، وبكثافة إستفزازية. ان الحيز يضيق حولها، كما هو حال محنتها التي ترغمها، في نهاية المطاف، على أعلان حرب شخصية ضد "كارتل" عدائي وعفن، وهي تردد بعصابية: "لا إستسلام".

تمر السيدة نييت بثلاثة مستويات درامية، يتحول المبنى العقاري فيها الى مطهر، يتطلب سعيراً عارماً، تشعله بتخطيط جهنمي، حيث ان خطيئة كائناته كامنة في "عجز إتحادها مع المحبة". في مرحلة تمهيدية، تتعلم البطلة معاني الغوث، عندما تكتشف وجود رهط من عائلات لاجئين أجانب، لا يفقهون اللغة، ولا يقتربون من قانون. بشر تحاصرهم جدران، وينال منهم خوف تهجير جديد، يدفعهم الى رفض عروض الإخلاء، لإن إيجارات شققهم متهاودة، تقول بغضب مكتوم: "لا شيء مما أراه يجعلني سعيدة، لكنني لن أضعه مسلّطاً فوق رأسي". إعتراف يقودها في مرحلة تالية، الى مقاربة نزاهتها وتعظيمها، عندما تجد ان الفضيلة في مبناها، أُغتيلت على يد طمّاعين أنذال. في المقطع النهائي، تقرر الإصطفاف مع نقائها، وضد إحباطها. تُلغِم مبناها بنار ضِرام، و"تُزخرف" جدران عاره، بكم وافر من رصاص مدفع رشاش، "معقمة" الإرث، من نجاسات "فقاعة عقارية" سوداء ولصوصها، وكأنها أرهابية إجتماعية، تجد تبرير فعلتها، ضمن "مربعها" الطبقي، وإشتراطات قصاصه

فيلم "العقار"(88 دقيقة)، مثل بطلته، ساخط ومَمْسُوس وصدامي ودّاوٍ. يقدم حلاً عبثياً للإنتقام من قطاع مفترٍ ولا إنساني، وحسب المخرج مونس مونسون فان "وجود شخص واحد يملك عقاراً يضم مئات العائلات، ويتحكم في الأقفال كلّها، فهذه مسؤولية كبيرة. وعندما لا يريد ذلك الشخص تحمّلها، نكون أمام مشكلة عويصة. عالم العقارات مثير للإشمئزاز، وغدّار، وباطل".

سينماتك في ـ  16 مارس 2018

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2018)