زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

 

"موسم الشيطان" للفيليبيني لاف دياز...

"الميتاسينما" ترَجَم الطغاة

بقلم: زياد الخزاعي

234 دقيقة ترَجَم الطغاة وأزلامهم. 4 ساعات من "تغريب" سينمائي، مستند على نظرية المعلّم الألماني برتولد بريشت، وقائم على مشهديات مطوّلة وإستاتيكية، لحكاية عصرية حول طغمة عسكرية تُرهب البشر، وتنكل بشبابهم، وتقمع حرّياتهم. سينما الفيليبيني لاف دياز، وكما هي متجلّية في جديده "موسم الشيطان"، أكثر من مسرحة حياة، أنها صوغ مطلق وخلاّق لـ"اللعنة السياسية" في بلاده. كان من السهل عليه سردها بتقليدية ومباشرة، تجعل من متفرج نصّه ضحية ميلودراما مَكْرُورة عن البَغْي ومعاركه وشراساته ودموياته، بيد ان صاحب "عراة تحت ضوء القمر"(2000)، إنتخب أسلوبية طليقة وتحفيزية، مقامها الأساسي الزمن وتراكماته وتحولاته وعذاباته، قاربت تاريخاً مشبعاً بالدم والخيانات والتصفيات والإغتصابات.

إنها "الميتاسينما" المشحونة بمستويات ثورية ومتشابكة، حشدت حكيه السينمائي بإبتكارية ملعونة، منذ عمله "عما قبل" (الحائز على جائزة "الفهد الذهب" لـ"مهرجان لوكارنو السينمائي" عام 2014)، الذي غطى مساحة عرض زمنية مهيبة  هي5 ساعات ونصف، ولم يخش إنفتاحه على إستقدام كل أنواع الأسطرة المسرحية والأوبرالية، وإبداعات الفنون التشخيصية، لتصبح سينماه ـ كما عرّفنا بها ذات مرّة ـ كـ"ماراثون سينمائيّ" مرتَّب برؤيةٍ مسيَّسةٍ، ينشد أفلمة مناحاتٍ مديدةٍ من دمٍ وخيانات وكبوات ثورات. يتجاور فيه الشعر مع مونولوغات الميلودراما، وميراث الغناء والرقص مع الأساطير وكائناتها، والقصّ الفولكلوريّ مع رواة الأحداث الكبرى ومتآمريها، وغيرها. مستغلّاً فيها أشكالاً شعبية، وبتكرار بيّن. فهناك سيرة ملحمية لجريمة في شّريطه "شمال، نهاية التاريخ"(2013). وهناك، الإمثولة الشعبية لـ"حياة" شبح في "عما قبل"(2014). وهناك، الفانتازيا التاريخية التي تألق بها نصّ "تهويدة اللغز الحزين"(2016). وهناك، دراما الإنتقام التي تقودها "المرأة التي غادرت"(2016). لكن ما زاده لاف دياز في "موسم الشيطان"، تركز في إبتداعه كينونة سينمائية تعبيرية ومُستَحْدَثة، قائمة على "ترتيل" الحوارات، وترنّيمها كأغنيات صوتية محضة، لا تصاحبها موسيقى ما. تعود أصولها الى الأناشيد الكنسية الغريغورية، التي إستعارت أوصاف "الكابلا" العريقة، وتواصلت ضمن الـ"مزامير" اليهودية القديمة.

ان الشخصيات الكثيرة، لن تقول كلامها بل تتبادله "ملحوناً". والمدهش أن كل منها لا يستكمل "نغم" الشخصية التي تقابلها، وإنما ترد عليها بـ"شَدْو" إيقاعي مختلف تماما،  ألفها المخرج لاف دياز برمّتها. ما فعله هذا الأسلوب الثوري لفصول الشريط، هو "قتل" متعة المشاهدة وتساهلها، مطالباً متفرجه بمشاركة تفاعلية وذائقية، يتعرف عليها للمرة الأولى. إذ ان عليه الإستعداد لمتابعة إجواء مفتعلة، مدجّجة بحركات وإيماءات شديدة الإختلاق، وعنيدة بإصطناعية مشاهدها وتنفيذاتها الفنية. فالقتل، يصبح رقصاً إيقاعياً. وتتحول مطاردة المناضلين والثوريين الى مسرحة ذات تكلّف فاقع. ويترسّم غيلان الديكتاتورية على الشاشة كـ"دمى سيركوية" بهندام عسكري، يؤدون مراسيمهم الرسمية بقدر لافت من التكاذب الإدائي. يفرض المخرج دياز على مشاهده القبول بالتصنّع كحقيقة تمثيلية، مستهدفاً منه لعنها كشرط أول، وعدم التعاطف معها أو الإستيهام بها. ولعل أكثر نماذجها إستفزازية، تجلّت في شخصية الديكتاتور ماركوس الذي يظهر عبر مؤدٍ يحمل وجهين متناقضين. أولهما لممثل يجسد خطبه، فيما أُلصق على الجهة المقابلة قناعاً لوجه الطاغية بعبوسه الشهير، ونظارته الطبية المميزة، وتسريحة شعره الحوشيّة. عليه، سيُفهم المرء حالة الإعراض التي أصابت العديد من النقاد والصحافيين الذين شاهدوا عرضه ضمن المسابقة الرسمية للدورة68 (15 ـ 25 فبراير/ شباط 2018) لـ"مهرجان برلين السينمائي"، وتأففهم من "غرابته" و"لا متعته" و"فشله في شد متفرجه" وغيرها من أحكام، أثبتت كردود فعل ان المخرج دياز متمسك برفضه مهادنة ذائقة إمتثالية، بإعتباره مخرجاً إنقلابياً بإمتياز.  

في أواخر سبعينات القرن الماضي ، تقوم ميليشيا خاضعة للطغمة العسكرية، بقمع قرية نائية في غابات الفيليبين. وينشر أزلامها المسلحون بالبنادق الآلية إرهاباً جسدياً ونفسياً. مستهدفين عبر تكتيكاتهم وخبثها خلق عداوات دامية بين سكان ريفيين، لطالما عاشوا دهوراً كجيران. فيما تسعى سياساتهم إلى تدمير ثقتهم  بموروثاتهم من حكايات وأساطير وأرواحها الهائمة وسحرتها. تفتتح الطبيبة الشابة لورينا (الممثلة شاينا مغداياو) عيادة لرعاية الفقراء وتطبيبهم، لكنها تختفي من دون أيّ أثر، بعد فترة وجيزة من مباشرتها عملها الإحساني. يسعى زوجها الشاعر والناشط والمعلم هوغو هانيوي(الممثل بيولو باسكوال في ثاني تعاون مع المخرج دياز) الى معرفة حقيقة مكان وجودها. تكشف رحلته المريرة، حينما يوشك من حلّ اللغز، عن مجتمع مكروب إخترقه الإستبداد. وأوهنت الأحكام العرفية الجائرة التي لا نهاية لها، من العنفوان التاريخي لقواه السياسية. ويسّر من إستهداف رموز معارضيها بعنف جسديّ ونفسيّ وجنسيّ موغل بالوحشية، ومعاقبتهم من دون هوادة كونهم أعداء نظام، تخلوا عن ولاءاتهم.

وصف المخرج لاف دياز فيلمه بأنه "أوبرا روك فيليبينية"، لكن ما دسّه في فصولها، هو نعي حزين لبلاد يتوارثها طغاة، صورهم بكاميرا ثابتة وحيادية، وضمن مشاهد "تجهيزية ـ مفاهيمه" طويلة، منفذة  بالأسود والأبيض، وبحجم عرض 3:4، أظهرتهم كطواطم فاشية ووثنيين وحيوانات سوريالية وسحرة وخونة، مقابل أناس عاديين، يتحملون دينونتهم وعذاباتها بصبر مُدبّر. يتحولون، حسب حكاية "موسم الشيطان"، الى جبابرة، ينتظرون قيامة جديدة ليسوع سياسي حداثي، يُنهي جورهم، ويقودهم نحو خلاص مكتمل، ذلك ان "الطغاة يصنعهم ضعف المظلومين"، كما قال أرسطو.

سينماتك في ـ  25 مارس 2018

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2018)