"هدفي الأول دائماً أنْ أصنع فيلماً بجوانحي كُلّها،
لذلك بدأت أعي إنَّه سيكون عن الحب والولاء في مجمل
جوانب الحياة البشريَّة. عَكَس فيلم "ميغالوبوليس" هذه
المشاعر، وعبَّر عن الحب في تعقيد شبه بلَّوري، حيث
كوكبنا في خطر وعائلتنا البشريَّة على وشك الانتحار،
حتى أصبح فيلماً متفائلاً للغاية يؤمن أنْ الإنسان
يمتلك العبقريَّة اللّازمة لعلاج أيْ مشكلة تواجهنا".
من شهادة كوبولا في كتيِّب الشّريط.
*****
"أنا أحبُّ أميركا"، يقولها رجل أربعيني بملامح
إيطاليّة في تلك اللّقطة الأيقونية التي أختارها
المعلم فرانسيس فورد كوبولا، افتتاحاً مجيداً لساغاه
العائليَّة "العراب" (1972)، قبل أنْ يلحقها بجملة
حازمة، تصبح منذئذ عنواناً لإمبراطوريَّة كاسحة،
عمادها قوّة وطمع وخديعة، يعترف فيها إنْ: "أميركا
صنعت ثروتي". هذه الأخيرة (الجاه) هي كُلَّ شيء في
جديد كوبولا "ميغالوبوليس" (141 د) الذي أساء الجميع
فهمه بعناد جماعي مريب على الرّغم من كتابته كلمة
"أسطورة" تحت العنوان الطنّان، إنَّما ليس المال
ونقوده لانَّه وسيلة مصطنعة واجبها إتمام مقايضات
البشر، بل الِنّعْمَة المُسبغة الأزليَّة (تُسمَّى في
الدستور الأميركي "الخير العامّ") التي يوفّرها جبروت
اقتصاديّ وعسكري كونها ثمناً موكَّداً، يناله المعلنون
عن وطنيتَّهم وولاءهم، يضيف كوبولا لهاتين الصفتين
الملزمتين أخرى ثالثة هي "عن نبوغهم"، باعتبارها قيمة
ربَّانيَّة لا يحصل عليها إلَّا أخْيار مكلَّفون
بالقيادات والتَّغيير والابتكار، تحتاجهم
الإمبراطوريَّة لـ"تثوير" تقاليدها ومثلها، وتَّسريع
حداثات أمة إنتقائيَّة، مهووسة بالسطوة والحروب وبناء
الأبراج وناطحات السَّحاب، وإشادة المجمعات العظيمة
البناء والمساحة التي تحتفي وتؤمن رفاهيَّات لا مثيل
في مقاومتها أو منافستها أو...تهديمها من أيّ قوّة
غاشَّمة وعدّوة.
*****
في النصّ المُعقّد والمتناثر والموغل بخطابيَّته، هناك
أباليس مدنيّون شعبويون كثر. ينتمي كُلّ منهم الى
مكيدة متقنة. يتفنون بها وعبرها على توكيد المعنى
الحقيقيّ والفريد لوجودهم. يُناور البطل المعماري
الشاب سيزار كاتيلينا (أدم درايفر) من أجل نواياه
وأحلامه ونزعاته الذَّاتيَّة كخلاق، وإقناع الجميع
بخططه الثَّوريَّة السَّاعية الى "تصويب" المسار
التّاريخي للمتروبولوس الجبار الشَّبيه بمانهاتن
نيويورك، إذ يرى في بقاء "تعفَّن الحال" الاجتماعي
خللاً عقائديّاً أقرب الى الكفر، يقول بثقة: "لا تدع
الحاضر يدمر الأبد". يبتكر خديعة امتلاكه مُكْنَة
خارقة، لا تاريخ لها أو تفسير عقلانيّ لوجودها،
تُعِينُه على منازلة شكوك الاخرين وحسدهم ولعناتهم.
أنَّها مكيدته في إيقاف الزّمن حتى "لا يتسيد على
أفكاري" كما يردّد بإلحاح. حيلة ذاتيَّة تُعطِيه وقتاً
إضافيَّاً ليصبح أمثولة نبيّ إمبرياليّ يبني مدناً
خياليَّة باذخة، يستلف تخطيطات بنائها من نصل نباتات
وارفة وأوراق زهور عملاقة، يصنعها من مادة عجائبيَّة
تدعى "ميغالون"، تجعل النّور يخترق الأشياء، وتمكّن
البشر من الرؤية عبر أجساد أقرانهم.
طوباويّة سيزار وسعيه الى مجد مطلق "يخلط" عوالم
ماضوية بتجديدات الألفيّة الثالثة وما بعدها، تجعله
حفيداً مُدلساً لأهل العمارة الشموليَّة بدءاً من روما
البائدة وانتهاء بنازي هتلر وتفخيماتهم للحيّز
والواجهات، وفاشيي موسوليني في استعاراتهم لإمجاد
الكولوسيومات والخزائن الحجريّة العملاقة. هذا الشاب
المهووس بأوراقه ودفتر مذكراته وطلّة القياصرة التي
يتلبسها والدّالّة على نبل مقامه وأصوله، والخانع بذل
الى الخمر حيث تطفو زجاجات إدمانه في الهواء، قبل أنْ
تتهشم كما لو كانت روحه الملتاعة بموت زوجة، يُتّهم
زوراً بقتلها وتقطيع جثتها!، لا يرى ضيراَ بشتم
الوطنيَّة، فهو لا يتماهى بها ولن ينتمي اليها، ذلك
أنَّ نبوته الهندسيّة التي تربط المعمار بالكيمياء
العضويَّة، وهو عنوان كتابه الذي تخترق غلافه رصاصة
يُطلقها صبي يبلغ من العمر 12 عاماً في محاولة
اغتياله، واستعارها صاحب "المحادثة" (1974) من حكاية
"مؤامرة كاتلين" كما رواها المؤرخ الروماني سالوستيس
(توفي 34 ق.م)، تعطيه مكانتين فوقيَّة وقيادية،
يتصوّره كوبولا (1939) بسببهما وهو يحلق فوق المدينة،
تارة حاملاً مسطّرة "تي سكوير" في مشهد فخم التّكوين،
باعتبارها سلاحاً إنشائيَّاً يبني "الخير العامّ"،
ويهدم رجس الماضي ورموزه، يقول: "إذا كان بالإمكان
عقلياً ابتكار ألهة تتدفّق منها قوّة ضارية، فلم لا
أتمكَّن من خلق تلك القوّة بنفسي". وتارة أخرى واقفاً
فوق ساعة الأقدار الأمبرياليّة حيث عقاربها الجامدة
تشير دوماً الى توقيت غامض لفناء بشريّ مؤجَّل حتى
سقوط مفترض لقمر سوفياتي عملاق من مداره!، مخططاً
للمزيد من الإزالات والأحلام. وتارة ثالثة، وهو معلّق
في فضاء اليوتوبيا المذهَّبة، واقفاً فوق ألواح
فولاذيَّة عملاقة، متشبِّهاً بصورة "غداء على قمة
ناطحة سحاب"(1932)، وأيضا اشتغالات المصوّرة الشهيرة
مارغريت بورك وايت، يناجي خيبته بفقدان إلهامه إثر
صعود الأناركية ورعاعها بتآمر من ابن عمّه كلوديو (شيا
لابوف) السّاعي الى الهيمنة وخطفها عبر الفساد
والخيانات والرشوة.
*****
هذا الشاب المتلوِّن بثياب الشّذوذ والفورات الشبقيّة
والخبث والجبن، هو شيطان طبقيّ ـ من بين ثلاثة أخرين ـ
في "أمثولة" كوبولا. من جهة، هناك عدوّ سيزار اللّدود
المدعو سيسرو (تُلفّظ في الشريط هكذا، وفي الإيطاليّة
"تشيتشرو"، وفي اللّاتينيّة "كيكرو") المتسيد الى
الأبد على عمادة المدينة. يدلّ لقبه "سيّد
العشوائّيات" على معارضته الراسخة للعصرنّة، ما يجعله
باغياً في الحفاظ على مكانته وهيمنته. الى جانبه، هناك
القطب الماليّ ووسيط السّلطات وحاميها المدعو كراسوس
الثالث (جون فويت) الشّبيه بشخصية دونالد ترامب الذي
يؤمن أنْ ثروته تمكّنه من "إخافة النّاس"، ويستخدمها
في إغواء المذيعة التلفزيونية الشابة والطموحة ذات
الاسم الغريب والمُضحّك واو بلاتينيوم (أوبري بلازا)،
قبل أن يقتلها حين يكتشف تآمرها (ومضاجعتها ابنه
كلوديو) والسطو على مصرفه وأمواله وأرثه. أخيراً، هناك
الشخصية النّاقصة الحضور والمدعو نوش بيرمان (داستن
هوفمَن)، وهو خنَّاس يقف خلف الأقوياء، ويعرض خدماته
لإزاحة مناوئيهم. كائن يضمر شرّاً نحو الجميع، وعلى
رأسهم سيزار ومشاريعه، معتبراً إيّاه عدوّاً لأمته
ومستقبلها ودهريّة كيانها وثباته.
***** |