زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

 

"كان ّ" الـ71:

"شجرة الإِجّاص البريّة" للتركي نوري بيلجَ جيلان.. براعات الصبر السينمائي

بقلم: زياد الخزاعي

 

 
   

يخسر المشاهد قليل الهِمَّة، رهان إستمرار متابعته جديد المعلّم التركي نوري بيلجَ جيلان "شجرة الإِجّاص البريّة"،المعروض ضمن المسابقة الرسمية، في الدورة الـ71 (8 ـ 19 أيار 2018) لمهرجان "كانّالسينمائي الدولي، بعد ساعة من عرضهإذ يخونه اصطباره، نظراً الى وفرة محاورات مُسهَبة ومزدحمة ومُعَقّدة طوال فصوله.لن يستسيغ المشاهد الكسول "تثاقفبطل شاب، تنال نوائب عائلية، من عزمه الإبداعي، وتحوّله الى مناكفات يوميةتُكرَهَه على معايشة ظن ملّتبس، في ان مَنْ حوله ليسوا سوى زمرة ريفيين رعاع "يتكلمون بالظنِّ". لا يستأهلون تواجده بينهم ومؤازرته وعواطفه وشهامتههم أهله، بيد ان كل فرد منهم، يتجسد كثيمة إعتبارية وسياسيةكيانات أدبية بحتة في منطقها الخيالي، هي جزء من تهويماته وفطرته ووعيه القيميالشاب سنان(إداء لافت من أيدن دو ديمركولمجموعة نداماتتبدأ مع فشله في تأمين وظيفة، إثر تخرجه من الجامعة، وعودته الى قريته في عمق أقليم مرمرةوتنتهي برضوخه المذل في التطوع كعسكري، مروراً بنشره روايته اليتيمة، بمال إستجداه على طريقة الهواة، الحصول على قرض وبيع سيارة أهله، قبل ان يذهب متنها، كسيرة ذاتية الى هباءويُزدرى صّيته ككاتب نكرة.

بما ان صاحب "سُّبات شتويّ"(السعفة الذهب لـ"كانّ"، 2014)، يملك كمؤلف ومُلهَم، رهافته وإنقلابيته السينمائيتينلن يتهاون في رسم كل شيء حول سنان، ككون سلبي ومتماوت ونكوصيفالشاب كينونة خلّاقة، وروح معطاءةيتجسّد كرباطة جأش إنسانية، وإصرار ذاتي، وجسارة وإقدام رجوليتين، رغم خضوعه الى إشتراطات حياة قروية ملولة وأحادية ونائية في مشاعر سكانها، وألفتهم المكتومةهذه الأخيرة، هي عصب المقطع الأول لشّريط جيلان، حيث يتواجه سنان في كل لحظة مع والد، يتمتع بشخصية جذابة(كاريزمية)، لكنه إناني ومدمن قمارشخصية لا تختار سوى منفعتها، ولا تملك إباءهاوهي، بدورها، صنو لوالد عجوز معاند لشروط الأرض وناموسها، بإصراره على حفر بئر، وصولاً لمياة لن تتدفق، إلا في أحلامهم جميعاكما يتسحيل الجُبّ العميق لذلك البئر الى موقعة لإنتحار مُفترض(أو بكلمة أخرى حفظ لسرّ)، يُقدِم عليه سنان في لحظة خواروهو فعل خيالي تسبيقي، يوميء الى فشل مقبل في تحقيق إختراقاتهلن يسعى الأب أدريس (مراد جمجير)الى مصالحاتإذ يتصاعد تمرده الداخلي، تعويضاً عن خسارات، تمتد من مطاردة دائنيه الى فشل زواجه، وأخيراً "هربه الإحترازيالى مزرعة والدهيتوهمه سنان مراراً، وهو تحت إنشوط، تتدلى من غصن شجرة إجّاص أسطوريةكأن بها تُمانع من تدنيس جذورها المقدسة بسوء خاتمته.

نصّ جيلان(ولد عام 1959)، "ساغاعائلية "تُطبخعلى نار طهرانية، لمدة 188 دقيقةنفذ مدير التصوير المرهف كوكان ترياكي مشهدياتها بصياغات تشكيلية مهيبة، مدعومة بفَوْرَات هائلة من ضياء فردوسي، ومواقع غابية مفتوحة تخلب اللُبّعناصرها مرتّبة بتوازن دقيق، تُعقلن الشكوك حول مواضيع بالغة الأهمية، مثل التعليم والإبداع والتوازنات الطبقيةعلمانية إدارات الدولة العميقة وفساد مسيّريهاتصاعد الإستبداد الديني مقابل إنحسار مؤسسات المجتمع المدنيّ وتراجع زخمها.صراع الإجيال التركية الجديدة والحائرة بين إسلاموية قومانية ونزعات أوروبية منحسرةيقوم هذا الجبل الدرامي، على سلسلة محاورات مستطردة بين سنان وشخصيات متضاربة الإنتسابات والقناعات والبواعثتخترق كيانه عبر طرحها إسئلة منحوسةوتتظلم له بحجج لا دهاء فيهاوتمرر مسوغات غير عفيفةوتتحصّن خلف ذرائع مَنْخُوبةيدفع التفطّن في كل مناظرة، بمتفرج "شجرة الإجّاص البريّةنحو نُصرة سنان، والتحسّر على إندحاراته، التي نقابل أولها، مع تخريبه تمثالاً فوق جسر في مدينة تشاناكالي، قبل ان يتخفى، من مطاردات رجال الأمن، داخل مجسد لـ"حصان طروادة"، إستخدمه فولفانغ بيترسن في شريطه "طروادة"(2004)، ويرتفع اليوم وسط الساحة المركزية للمدينة الساحلية.

تتوالى خطايا سنان، على نحو تجعله روحاً لا مكان لها في أرض السّوْءَة والعَوْرَة(أو اليباسرغم سحرها المشهدي، وجمال سهوبها، وروعة بساتينهايلتقي حبيبته الأولى خديجة(هازار أردوغلو)، ليُصدم بعودتها الى أصولها الرعوية وتحجبها، وخبر خطبتها الى صائغ بدين، نقابله في مفتتح الفيلم، مشتكياً من "تهربوالد سنان في إعادة نقود ذهبية، إستعارها كدين!. يضبط إمامين شابين ببدلاتهما الأوروبية، وهما "يسرقانإجّاصاً بريّاًقبل ان يجول معهما بين الحقول، وهما يساجلانه في أمر إيمانه، ويعايرانه بإزدواجية علمانيته ومثاليتهيلوذ بعمدة البلدة على أمل تأمين وظيفة، ليكتشف ان الرجل يهادن الجميع، من أجل الحفاظ على إعادة إنتخابه، وتأمين منصبه وعلاواته وسطواتهأما أكثر القساوات في مسيرة البطل الشاب، فتتفجر في لقائه مع روائي معروف داخل مكتبة، تزهو جدرانها بصور كافكا وغابريل غارسيا ماركيز وناتالي ساروت وفرجينيا وولف وهمنغواي وغيرهم، حيث ينقلب الكلام عن أحقية الأدب وقدراته على التغيير، الى هجوم كاسح ضد نفاق مثقفي العهد الأردوغاني ومناقبياتهم وجبنهم وإنكفاء إبداعاتهم.

إزاء هذا العالم اللاعادل، يسعى سنان الى رسم حدود مملكته الفاضلة(أو "كهفه المحميّحسب جيلانالتي يرى فيها كوابيساً سورياليةجثمانا وليد حديث(هو)، ورجل متوسط العمر (والده)، تغطيهما جيوش النملكلب يعدو نحو حتفه بقفزه الى أمواج بحر عاصف، لسبب غريب ومجهوليرى سنان نفسه، وهو ينبش بإصرار مجنون قعر البئر/الرحم العقيمهذه رؤى أساسية، زوّدت شّريط مخرج "بُعد"(2002) و"القرود الثلاثة"(2008)، بعمقين تجريديّ وملحميّ، ينتميان الى روح "الميتا سينما"المجيدة، يخترقان بين الفينة والأخرى، روحاً تشيخوفية(نسبة للكاتب الروسي الشهير)، سبق ان شعّت كأسلوبية قول روائي مُحكم الصنعة، وبناء حكائي لا مثيل في روعة تصويرهما، وترتيب سرديتيهما، وتضارب شخوصهما، في تحفة ابن أسطنبول السابقة "كان يا كان في الإناضول"(جائزة لجنة التحكيم الكبرى في "كانّ" 2011).

سينماتك في ـ  23 مايو 2018

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2018)