زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

 

"كان ّ" الـ71:

"دوغمان" للإيطالي ماتيو غاروني.. "حيوانيّاتبشريّة

بقلم: زياد الخزاعي

 

 
   

يفتتح الإيطالي ماتيو غاروني (ولد في روما عام 1968) شّريطه "دوغمان"، بمشهد مُتفجّركلب ضخم الجثة، ينبح بشراسة في وجه رجل ضئيل القامة الى حد التلاشي، ونحيل الجسد الى حد المرضيسعى الحيوان الى فك رباطهجَبَرُوته لا يسمح له بالرضوخ الى قيدهالرجل هو مارتشيلوصاحب عيادة تحمل أسم "دوغمان" (بالإنكليزية)، ومتخصص بالكلاب ورعايتهاما يلي هذه الفورة من عداوة، هو إنقلاب في الموازين بين "شخصيتينمتناقضتينبهيمة جبارة القوّة، تنصاع الى إنسان صغير ذا عقل راجح، ورويّة مدهشة، ورباطة جأش مُربكةيُرضِخ مارتشيلو الوحش العملاق الى إرادتهويُخضعه الى أوامرهيستأنس الكلب بحمام سريع، ويستمتع بمناغات تشيد بـ"عظمته". ما يكشفه هذا المشهد، ان الإيطالي الضامر، يحمل في دواخله قدرة عجائبية في مُخَادَنَة وحوش. يلتقي، لاحقا، بأكثرها ظلماً وجوراً ونكراناً ورذالة، تتجسد في "بهيمة" بشريّة، عملاقة الجثة مديدها، صغيرة العقل ناقصة مداركه، تدعى سيمونه(إداء خاطف من إدواردو بيشه). تسحبه عنوة الى عالم سفلي مفعم بالفَتْك والدم والمكائد.

مارتشيلو(مارتشيلو فونتي، الحائز على جائزة أفضل ممثل في الدورة الـ71(8 ـ 18 أيار 2018)  لـ"مهرجان كانّالسينمائي الدولي)كائن يحمل قلباً مفعماً بالحب والأريحيّة. يودّه الجميع، ويرغبون في صحبته وجيرتهيشاركهم إجتماعهم في لعب كرة قدم، ويجالسهم عند موائدهم، ويُصلِح بين خصوماتهممارتشيلو عنوان للألفة والجماعيةيومه متوازن وروتينيتعشقه ابنته صوفيا(أليدا بالداري كالابريا)، ولا تُعاديه طليقتهيقع دكانه في حارة متواضعة ببلدة جنوبية ساحلية(فيها الكثير من عناصر الحياة التي صورها غاروني في فيلمه "غومورا"، 2008). في جغرافيتها، هي أشبه بمعتزل جماعيالكل فيه يكمل بعضه في نظام تكافلي غريب الهمم، وملّتبس التفاصيلتارة، نرى كائنات مافيوزية تتآمر وتجرموأخرى، نقابل مجتمعاً أوروبياً يتبادل يومياته على قدر من تحضروثالثة، نصادف نظاماً من جنايات ومعاص تُرهّب القلبمقابل هذا، يبقى مارتشيلو صافي النوايايشارك كلابه طبقه اليومي من السباغيتي.ويتفانى في إسعاد إبنته برحلات بحرية مُكلفةهذا فردوس خيالي، شكلّه رجل ضامر، بحيث ان المحبة فيه لا تَسقُط أبداًلكن، ماذا سيفعل حينما يتم إذلال تلك الحنيّة؟الجوابسيُقدم على ما ترتكبه كلابه حينما تُحاصر.

أن مارتشيلو ليس ملاكاً بالمطلقفلديه جنايات "صغيرة"، تؤمن له مالاً يشتري به سعادة صوفيا، ويغطي أكلاف حياتهماأكثر جرائره فداحة، صناعته "فرانكشتاينمحلي مدمن على الكوكايين الى حدّ الشراهة. يستمريء عدوانيته الى حدّ الهوس، فارضاً سطوة يخشاها الجميعان سيمونه هو الوجه الأخر لمارتشيلويعلن الأول عن بهيميته في كل مرّة يحتاج فيها الى جرعتهفيما ينتظر الثاني قدر توحشه المقبل ضمن مساحة هائلة من الجَلّديوقع سيمونه صديقه في ضّيق جريمة سرقة، فارضاً عليه الإعتراف بجنايته(لوحده)لرجال الأمنيُمضي، بدلاً عنه، سنوات سجن مجحفةعندما يطالب الرجل الضامر من سيمونه لاحقا ردّ حصته المالية، يسومه هذا الأخير عذاباً مقنناً بوعيد أذيَّة طفلته.

وكما صور غاروني هوس الشاب الغرير لوتشيانو بطل فيلمه "واقعية"(2012)، في المشاركة ببرنامج تلفزيوني، قبل ان يوقعه ولعه المريض في مهانات الحطّ من نفسه وعائلته وكرامات أفرادها، يُفخّم مخرج "حكاية الحكايات"(2015) من لوثة مارتشيلو في أخذ زمام مبادرته لـ"تحقيق" عدالة شخصيّة. إذن، ماذا عليه ان يُسّبق في المقام الأول؟ان يُنحّي إرتياعه من الوحش، ويهجر دماثته، وينبذ تردَّده.

فيلم "دوغمانليس عن الإنتقام وذرائعه ومغبَّاته(يفضل غاروني تسميته بـ"الخلاص من خطيئة")، إذ تُصيب حكايته مرام أخلاقية عدةمنها ثنائيات الجبروت/الخنوع، الخيارات/ الإكراه، البراءة/ النجاسة التي تزخر بها حياة رجل سقيم (بطل ضد)، يتوهّم ان عالمه بات صافياً ومتوازناً، بعد ان "يفتديإنعتاقه من ذلّ، كاد ان يكون مستداماً، بإرتكابه حماماً من دم، وسيلاً عارماً من عنفلكن مارتشيلو سيكتشف بوجع بالغ، في مشهد ختامي مُنجز بروحية الملاحم الأغريقية، ان العالم من حوله لم يتغير على الإطلاق، وفوق ذلك أنه لا يكترث بـ"مجزرته"، ولا بالجثة التي يحملها فوق كتفهيفلح الأب الضامر في إغواء "رجل الشّدةبكيس من الكوكايين، قبل ان يحتجزه داخل قفص كلابه، ويُكّبله بحزام قيودها، داعياً حيواناته الى "الإحتفاءبكلب جديد، ينظم الى عائلتها.

ما يتبع هذا، هو سلسلة من كرّ وفرّ بين رجلينتتوكد، في تفاصيلها الموغلة ببشاعات غير محتملة، غلبة مارتشيلو في فك "عقدة غوردياسالمعقدة في حياته، لأن "حيوانيتهباتت صفته الحقيقية التي إنعكست بوهج شنيع على إداء الممثل فونتي، وتقاطيع وجهه اللا متناظرة وتعابيرها المفزعةينادي الرجل بجزع أهل حارته الساحلية، كي يزكَّوا فعلتهجريمته الكبرى، وعتقهم من عدو ضمني، لطالما شكّل تهديداً لسلمهم الأهليبيد ان صرخاته تذهب سدى، تماما مثلما تلاشت بطولته في إنقاذ كلب صغير، تركه أزلام سيمونه، كي يتجمد في ثلاجة قصر نهبوهذلك ان هذا المخلّص لا يدفع سوى دّية حيوانيته المموَّهة والمؤجَّلة.

سينماتك في ـ  28 مايو 2018

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2018)