زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

 

"كان ّ" الـ71:

"البيت الذي شيّده جاك" للدنماركي لارس فَنْ ترير.. إبن المهالك

بقلم: زياد الخزاعي

 

 
   

في الميثولوجيا الإغريقية، يُطلِق ملك العالم السفلي هاديس إبن كورونوس، وحشاً مريعاً يدعى الـ"كراكن"، يسفك دماء البشر، ويمحق حواضرهم. سلاح فتاك لقصاص هايدس من خديعة أخيه زيوس، وإرساله الى عالم الموتى. في جديد الدنماركي لارس فَنْ ترير "البيت الذي شيّده جاك"، يتجسّد ذلك الكائن الخرافي، عبر سحنة الشاب جاك(الممثل الأميركي مات دَلِن)، وأفعاله الشرّيرة التي يبررها بتخوين ضحاياه و"خياناتهم" الى قداسات هذه الحياة الربّانية. حسب رؤيته، هؤلاء كائنات على قدر هائل من السذاجة. يدعون ويحضّون، قتلة على شاكلته، ليرديهم، ويمثل بجثثهم، ويتفنن بإماتاتهم، قبل ان يشيّد من أشلائهم، وعلى وقع تضرعاتهم، بيتاً إِبليسياً. أخطأ كثيرون، حينما إعتبروا شّريط فَنْ ترير عنيفاً، لا يطاق، ولا يستحق صناعته، ذلك أن خطابه الإيديولوجي، يساجل الإفتتان الجماعي الشائع اليوم بمشاهد الفتك والبطش والغيِلَة والإبادات والمحارق وجزّ الرؤوس والإعدامات العلنية والخوزقة ودفن الضحايا أوإغراقهم أحياء، وغيرها من فظاعات لا تطاق. لن تكمن الغرابة في وقوع تلك الشناعات وإرتكابها، بل في درجة إباحتها مجانا على شاشات وسائط متعددة وقنواتها. أجازت، لدوافع مخزيّة، تسريب صورها ووقائعها الدموية، مشيعة الرعب بين أوساط قطاع جماهيري معولم.

يأتمر الـ"كراكن" بكلمة راعيه. عندما يُطلق سراحه من سجن ظلماته، لن تشفع للبشر رحمة أو نجاة أو هناءة. الكل ّممدودون للقتل. وما الوحش سوى أداة عقاب جماعي لكثرة الرزايا. جاك هو وجه أخر لفناء الخطاة وأمثالهم من فاسقين وجبناء ومتقاعسين، حيث ان القوّة لا تُصيب سوى عند الجائر وصاحب الحسم والباغي. في المشهد الإفتتاحي، نشاهد البطل، قائداً سيارته الى وجهة ما. يبدو رجلاً جاداً وملتزماً وحريصاً على موعده. بيد ان امرأة ذات طلّة برجوازية(أما ثورمان)، تلجّ على إسعافها من "محنة" سيارتها المعطلة، وهي تقف بلا حول وسط عراء بري، ساطع النور، فردوسي الألوان. يحافظ الملاك المفترض، على قدر كبير من التأني والإصطبار، لكن إستهتار السيدة ولمزاتها الخرقاء، وهي تحمل رافعة السيارة، في أن مرافقتها له في شاحنته "ربما يكون أمراً خطأ". "خطأ؟"، يتساءل الشاب. ترد بلؤم: "نعم. ربما انت سفّاك دماء. لإنك تشبه السفاحين". تنتهي هذه المُداهرة بمقتلها بواسطة الألة التي رفعتها في وجهه، والتي تسمى بالإنكليزية JACK، ليتشارك النعت مع أسم البطل، مشكلين خطاُ دموياً متصلاً بين هوس رجل بزهق أرواح، وإختياراته أدوات فتكها.

ولفت مولي مالين ستاينسغارد هذا الفصل التمهيدي، المعنون بـ"القانون والنظام"، لرؤى جاك بشأن الميتتات المقبلة، بنفس تهكمي لافت, يستند الى "مؤثر كوليشوف"، الذي يعد جزءاً من الفولكلور الأساسي  للسينما(حسب وصف "موسوعة شيرمر")، إذ قابلت بين لقطتين مقربتين، واحدة لوجه جاك، وهو يحسم أمر جريمته، مع أخرى لنمر يلعق لسانه، فيما تتبعها صورة حملان بيضاء، ترعى بسلام وسط الحقول، مع خلفية موسيقية لإغنية المطرب البريطاني ديفيد بوي "شهرة"(1975). يقودنا فَنْ ترير، منذ لطخات الدم الأولى هنا، الى إنقلابات شخصية جاك، أو ما يسميها الشريط بـ"الحوادث الخمس". فمن تخفّيه تحت رداء موظف أمن، مخترقاً بيت السيدة 2(شيفون فالون هوغن)، بحثاً عن جثة جديدة، يرفع بها جدران "منزله" المتواري داخل مستودع/ ثلاجة عظيم الحجم، الى إقتحامه دكان بيع أسلحة ومعداتها، لينال من موظفها المدعو آل، قبل التوجه الى مقطورة سكنية، والغدر بقاطنها العجوز، الى مشهد المجزرة الرهيب التي يرتكبها جاك بحق أفراد "عائلته" جميعا. يصطادهم كطرائد راكضة وسط أحراش وحشية، وهو يقف فوق برج خشبي، مقتدياً بالقائد النازي آمون غوت في "لائحة شندلر"(1993) للأميركي ستيفن سبيلبيرغ.

جاك مهندس معماري ورجل مستوحد. يكشف خلال محاوراته مع رجل، يدعى فيرج عن وسع معرفة حول أسرار بناء الكاتدرائيات التي يصفها بأنها: "أعمال سامية متوارية عن الأنظار، في أكثر الزوايا ظلمة، لا يراها سوى الله. والكلام ينطبق ايضا على الجرائم". يشرح عمليات تخمّير العنب والجثث، وألية عمل معسكرات الإعتقال النازية، ويُفصّل تقنيات غواصات أدولف هتلر الصغيرة المسماة بـ"شتوكا".  نرى جاك ـ الذي كان في صغره، يقطع أرجل صيصان الدجاج بكماشة، ويتلذذ بمشاهدتها، وهي تفقد توازنها وتغرق خلال عومها ـ شخصاً مهووساً بالكمال، لإن خياراته لا تقبل المزاح أو الزّلات. من هنا، نفهم حجم وساوسه المريضة، بشأن نظافة مسرح الجريمة، وعدم تركه أدلة تقود القانون ومتطفليه الى عرينه. فمهمته في تشيّد البيت لن تكتمل من دون حصانات قدرية/ أوامر، كما هو حال الـ"كراكن". ينصح جاك الشابة "سمبل"(أو "براءة" الممثلة الشابة رايلي كيو)، بعد كشفه عن خدعة إعاقته التي سهلت له إقتحام شقتها الصغيرة، بالصراخ طلباً للنجدة قبل قتلها: "ان كنت ترغبين بالصراخ. أنصحك ان تفعلي ذلك"، مثبّتاً لها/ لنا ان الأخرين ليسوا سوى كائنات صماء وأنانية وبلا نخوات. حينما يسحب أحدى الجثث بسيارته، تاركاً خيطاً دموياً مرعباً وبقايا بشرية طوال الطريق، تستجيب سماوات هاديس لضراعاته، وترسل طوفاناً من المطر يزيل مستمسكات الإثم. ان حصانات جاك تنطبق فقط على جناة، تقف قوى كبرى خلفهم، تسوّغ جرائرهم وتتسترعليها.

في "البيت الذي شيّده جاك"، المعروض خارج المسابقة في الدورة الـ71(8 ـ 18 أيار 2018) لـ"مهرجان كانّ السينمائي)، توافرت خلاصات عن الموت، هي إمتدادات يقينية شعت بقوّة في غالبية إشتغالاته السابقة. ففناء الشابة بس ماكنيل، في فيلم "تكسير الأمواج"(الجائزة الكبرى لـ"كانّ" 1996)، لن يتحقق سوى عبر إيمانها اليسوعي، بان "الموت هو ربح"(رسالة بولس الرسول21:1). وهو الإستحقاق الإلهي ذاته، الذي تواجهه الشابة الفاقدة لبصرها سلمى في "الراقصة في الظلام"(السعفة الذهب لـ"كانّ" 2000)، وهي تستسلم الى حبل مشنقة، قصاصاً لجريمتها الملّتبسة لإن: "الكُلّ باطل"(سفر الجامعة2:1). كذلك، يُجيّر المخرج ذو الميول اليسارية مقتل الرضيع في المشهد الإفتتاحي لشريط "المسيح الدّجّال"(2009)، على إعتباره موتاً ثانياً لوالديه الغافلين برجاساتهما، وهما يتضاجعان، عن سير الكائن الصغير نحو حتفه، قبل ان يمحقا ببعضهما الأخر في مشاهد موغلة بعنف وإنتقام.

يستملك جاك الثيم الإنجيلية هذه، مطوّراً حججها لصالح خطاب تخويفيّ، بان إهراق الدم هو باب خفيّ في نفوس البشر، يبرّر مقولة ان "مَنْ يَغلِب يرث كُلّ شيء"، بيد ان الرّب لن يترك هذا الـ"كُلّ شيء" للكَذَبة. إذ ينتظرهم نصيبهم في "بحيرة متّقدة بنار وكبريت"، سنراها في المشهد الختامي لـ"البيت الذي..."، حينما يجد جاك /الـ"كراكن" نفسه، بعد ما فرغ من بناء بيته الموعود، وإشتد ضيق إنشوطة قصاصه، أمام الرجل الوحيد في تهويماته. يتجلى العجوز الأنيق فيرج (الممثل السويسري الألماني برونو غانز)، ضميراً ثيوقراطياً، يساجل الشاب على سُبل خلاص وحياة أبدية وأُجرة خطيّة وتطهر "حسب ناموس الدّم". لكن جاك /الـ"كراكن" هو إبن هلاك، تنتظره خاتمة محتومة تُدمره في بحيرة من سعير، ليتحقق حدسه الجارح في ان: "الجنة والنار صنوان. الروح يملكها الفردوس. والجسد يحوزه الجحيم".

 نصّ فَنْ ترير يشبهه تماما. إستفزازيّ لكن خلاّق. سجالي لكن شديد الإعتداد بقرائنه. مستهتر إلا أنه يخضع بحزم الى شروط "مسخراته الممركسة" حول الإيمان وإشاراته ولوائحه. "البيت الذي..."(155 دقيقة) كوميديا باهرة، للذين يرون في وحشها المنذور الى ميتات مجانية، إستعارة للروع الذي يخترق ضمائرنا، ويحطّ من إنسانيتنا.

سينماتك في ـ  08 يونيو 2018

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2018)