زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

 

"كان ّ" الـ71:

"حرب باردة" للبولندي بافل بافليكوفسكي... نبؤات الغرام

بقلم: زياد الخزاعي

 

 
   

الحبّ نُبُوءَة، لإنه فضيلة. العشق إنعتاق، لإنه ملجأ ورجاء. الهيام تبرير لرفع العبء، لإنه قوّة وتعزية روح. هذه قيّم خلّاقة، إنتصر اليها شّريط البولندي بافل بافليكوفسكي "حرب باردة"، الحائز على جائزة أفضل مخرج في الدورة الـ71(8 ـ 18 أيار 2018) لـ"مهرجان كانّ السينمائي الدولي". بطلاه شابان يجمع بينهما غرام، على خلفية أنقاض بولندا ما بعد الحرب العالمية الثانية. يصبح الجوى منطق حياتهما وإبداعهما، ولاحقا صراعهما ضد شياطين نظام توتاليتاري وعصاباته، التي تُسّبق الإيمان الحزبيّ، كخضوع جماعيّ غير مشروط. ذلك ان السلطة، كما الحبّ، لا تُهادن. ما هو مُستَعْص للثنائي وعلاقتهما المتألقة، يكمن في عمق السقوط الذّمّيّ للناس، ولا تطابق أمزجتهم، وسهولة تحوّلهم الى مخبرين وقتلة. انها "حرب باردة" بين مواطنين عاديين، لا أقطاب أو معسكرات أممية. معركة يومية بين شرّ يتعاظم مقابل صبوات متفجّرة، تود ان تكون حرّة ومنزّهة، من أجل ان لا تتعطّل بصائرها.

لئن تفشل الحدود، على الدوام، في عرقلة مسارات العشق وإنعتاقاته الإنسانية. يصبح ولع المؤلف الموسيقي فيكتور(توماس كوت) والمغنية تشولا(يوانا كوليغ)، عابراً للحواجز والكراهيات والتآمرات والتحزّبات. انه ـ حسب  بافليكوفسكي ـ قصة حبّ في أوقات مستحيلة. إستعار صاحب "إيدا"(أوسكار أفضل فيلم أجنبي، 2013) الحكاية الحقيقية لوالديه، مُطلقاً  أسميهما على بطليه فقط، من دون إقتباس وقائع زواجهما غير السعيد. مؤولاً تواريخها وشخوصها درامياً، لسرد محنة كيانين مختلفين، وسعيهما للحفاظ على وحدة قرارهما في العيش معا، و"نضالهما" ضد تحوّلات السياسة وغدرها. ضد الإدانات المتواطئة للحزبية المريضة. ضد البعاد، والإرغام على الحياة في الظلّ. ضد فصل الشوق، وتعطيل الحبّ. ضد "صعوبة البقاء في المنفى، والعيش ضمن ثقافة مختلفة". ضد "صعوبة ضمان السلامة في ظل نظام إستبدادي"، حسب بافليكوفسكي.

خلال بحثه المضني، في العام 1946، عن صوت ريفي مميز، لإداء أغان فلكلورية ضاربة في القدم، ضمن خطة شيوعية دعائية للإحتفاء بالموروث الشعبي الغني للقوميات الآرية في البلاد. يلتقي فيكتور بشابة شقراء ساحرة، بلا مواهب صوتية، يكتشف سريعا "خدعة" إدعاء ان أصولها تعود الى عشائر ريفية عريقة، فيما هي في الواقع إبنة عائلة هامشية. تسعى الى الهروب من فقرها، وتداعيات حادث طعنها (أو قتلها) لوالدها السكير والعنيف، الذي حاول الإعتداء عليها: "خلط بيني وأمي، فرفعت سكيني في وجهه، كي يعرف الفرق"، تُخبر الحبيب. على طرف نقيض، يأتي فكتور من خلفية تعليمية وثقافية مُؤَسّسة ورفيعة. يصفه بافليكوفسكي بانه "إبن الإنتلنجيسيا المنضبطة والحضارية، المتميزة بكياستها وإعتدادها. موسيقي موهوب، يحتاج الى طاقته الإبداعية".

إذن. هذه علاقة حبّ بين طبقتين متناقضتين، ومحتدين متضاربي الأصول والعزوم والآفاق. فالى أي قدر يمكن إستمرار عروتهما، وبقاءها حيّة ومزدهرة؟. أي أمتحان عليها إجتيازه لمعرفة أصالة شغفهما؟. بما ان عيون الوشاة الحزبيين كثيرة، فان لقاءات الغرام لا تتحقق بيسر. بيد ان قوّة الحبّ تتشكّل بصرياً على يد مدير التصوير المميز ووكاش تشال، وإشتغالاته المجيدة على مشهديات عريضة(Wild Shot) مفخمّة وديناميكية ومختارة بعناية، ذات "مقاس أكاديمي" بسعة 1.1.33، صوّرها بالأبيض والأسود وتدرجاتهما. إنتصر بافليكوفسكي/ تشال الى هذا الخيار لإنه "الأقرب الى الحياة الفعلية في بولندا الخمسينات، حيث كان الناس يرتدون ألواناً داكنة ورمادية. ان إظهرتهم بألوان نابضة بالحياة ، فسيكون الأمر برمّته مزيفاً تماماً". يقول صاحب "صيف حبّي"(2004). في تشكيلية غالبية اللقطات، يكون الحبيبان في واجهتها، يقفان أو يجلسان عند الجانبين أو في وسط الطرف التحتي للصورة. الغرض من ذلك ليس جمالياً وحسب، بل لإضفاء مسوحات تراجيدية واضحة التأثير، تُعظّم من المساحات الفاضية حولهما. يحيط فيكتور/ تشولا، على الدوام، فضاء حرّ ذو إضاءة مركزية علويّة. فيما يكون ذلك الحيّز، في اللقطات الداخلية، مملوكاً لسقوف سامقة منيرة ببهاء، بينما ترتفع فوقهما، في اللقطات الخارجية، سماء رمادية، كإستعارة عن موات وجدب ورزايا. فهما كائنان تمتلكهما أماكن. تفصل بينها عوائق أيديولوجية، ولاحقا سواتر حديدية عسكرية.

نالت إستثنائية "الحرب الباردة" من ملايين البشر ومصائرهم. وغيّرت منطق حيواتهم ونظراتهم لمعاني الوجود والعائلة والمنافع. هذه الأخيرة، تصبح إختباراً حاسماً لحبّ فيكتور/ تشولا. يفرّ الأول، خلال حفل ببرلين الشرقية عام 1952، الى باريس، وينخرط في "نضال" بديل ومعارض لنظام وارشو. بينما تختار المرأة البقاء في البلاد، بحجة "ما الذي سأجده في ذلك الغرب؟"، ولإنها لا ترى غضاضة في العيش تحت رحمة الأممية البولندية، التي تصبح نجمة الغناء في حفلاتها الرسمية، بل وتتزوج من المشرف الحزبي على فرقتها، وهو سائق وضيع، تحول الى جاسوس، وإصطاد بولائه منصباً فخرياً)، ضامنة بذلك حياة رغيدة، ومكانة ضمن مؤسسة نافذة. من هنا، يصبح  "حرب باردة"(89 دقيقة) تأملياً في جوهر الوفاء، الذي "يُطارده" الشّريط بين المانيا وفرنسا ويوغوسلافيا وبولندا، على خلفية فيوض من أغان جبلية وترانيم ريفية شهيرة، تعود الى فرق ذائعة الصيت مثل "مازوفشا" و"شلاوسكا"، يستخدمها بافليكوفسكي بفطنة، لكن من دون مراعاة للفجوات الزمنية، تلميحاً الى مراحل تاريخية تتوزع بين الحقبة السوفياتية، أو موت ستالين، أوسقوط جدار برلين وغيرها.

يبقى فيكتور على إخلاصه. تتردى حياته، ويعيش عوزاً عاطفياً رغم زواجه، لإن امرأة حياته مغيبة. حينما تتاح له فرصة لقائها في يوغوسلافيا. يكتشف، رغم مواقعاتهما الجنسية الحميمية ولهفتهما، ان الشرخ الفاصم لعلاقتهما نهائي وموجع. يصل فيلم "حرب باردة" الى خلاصة سوداوية، ان فيكتور/ تشولا، كلاهما أناني على طريقته ونفعيته. بيد ان الحبّ يبقى عصيّاً على المهانات، لإنه فضيلة لا تُمس. أما بشره، فليسوا سوى إرادات هوجاء وحمقى، لهم قدرة على إمتهان ما هو أسمى في حيواتهم الفانية.

سينماتك في ـ  16 يونيو 2018

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2018)