زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

 

"مهرجان السينما العربية" في باريس،2018.. واجهات مرموقة لسينمانا

بقلم: زياد الخزاعي

 

 
   

مع إختيار جديد اللبنانية نادين لبكي "كفر ناحوم"، الحائز على جائزة لجنة التحكيم في الدورة الـ71(8 ـ 18 أيار 2018) لـ"مهرجان كانّ السينمائي الدولي"، كفيلم لإفتتاح الدورة الأولى لـ"بينالي السينما العربية" في باريس، بعد عودة متأخرة الى واجهة المهرجانات العربية في أوروبا منذ عام 2006، تكون هذه الإحتفالية، وفي حالة إصرار القائمين على إستمرارها كفعل سينيفيلي ديناميكي، بمثابة الواجهة الحقّة التي تستكمل "مغامرات" نظيراتها، مثل "مهرجان مالمو السينمائي" في السويد (تحت إدارة محمد قبلاوي)، و"مهرجان جنيف الدولي للفيلم الشرقي" في سويسرا(تحت إدارة طاهر حوشي)، و"مهرجان الفيلم العربي برلين"(تحت إدارة فادي عبد النور)، و"مهرجان فاميك للسينما العربية" في فرنسا، و"مهرجان بي بي سي عربي للأفلام والوثائقيات" في لندن وغيرها، في نضالها العصيّ، والساعي الى نشر الفيلم العربي والتعريف به، وتأمين سند دولي لجيل سينمائي موهوب وحداثي، تحاصره رقابات وبيروقراطيات وفساد إدارات وتخلف مؤسساتي، وأخيرا حروب تتوالد بشكل مرعب، تغيُّر خرائط سياسية، وتسبق أولويات إيديولوجية.

لا يمكن سوى الإنتصار الى الـ"بينالي"(28 حزيران ـ وحتى7 تموز 2018). فهو بوابة تحريضيّة لفهم مقاصد السينمائي العربي في قلب عاصمة النور. يأمل المرء ان تؤدي السجالات التي تشهدها أروقته، الى تكريس قناعات أساسية، سواء بين إصحاب القرار في "معهد العالم العربي"، المشرف على هذا المهرجان، أو أقطاب صناعة السينما في أوروبا، ممَنْ سيدعون الى عروضه، أو صناديق الدعوم الأوروبية المشاركة في جلساته الإستقصائية وندواته البحثية، الى وجوب تسهيل إختراق السينيفيلي العربي للمؤسسات الأوروبية وجمهرتها وذائقتها، ما يعني ضخ قوى متجددة لآمال السينمائيين العرب، ونصرتهم في تحقيق مشاريعهم وعرضها وتأمين توزيعها، وتوصيلها الى أكبر قطاع شعبي، عبر جدولتها في دورعرض  مدن القارة الناهظة. ذكرنا فيلم لبكي(إنظر مقالتنا حول الشريط، ضمن تغطيتنا لمهرجان كانّ، على موقع "سينماتك") كنموذج باهر على قُدرة السينمائي العربي في تحقيق نصّ عالميّ الجودة، يحمل معان إنسانية واسعة النطاق، ويجادل بمهارة حول قيم العائلة والسلطات والعنصرية والخطيئة، وهي عناصر تتوافر في نصوص عديدة، ضمتها عروض المسابقة الرسمية للـ"بينالي"، في مقدمتها باكورة المغربية الفرنسية مريم بنمبارك "صوفيا"(80 د)، ومقاربته لثيمة جنايات الأهل، ووزر الرزايا الشخصية التي تقود بطلة شابة الى قرارها الصادم لمن حولها، في الإنتصار الى أمومتها وإحتفاظها بجنينها، رغم خشية الجميع من فضيحة ولادة إبن سفاح، سيأتي الى هذا العالم، ويورّط عائلتها بعار جماعي. فيلم بنمبارك إستفزازي بمسايرته الأخلاقية لمفهوم الزلّة الشخصية وسقطاتها، وايضا سؤاله الجارح حول الحرية الشخصية في مجتمعات محافظة، تؤمن ان علاقات جنسية خارج زواج شرعي، هي جريمة يعاقب عليها القانون، ويُحرمها الدين وأعرافه.

يشعّ هذا التناقض بقسوة، في العمل الروائي الثاني، بعد "حب ، سرقة ومشاكل أخرى"(2015)، للفلسطيني مؤيد عليان "التقارير حول سارة وسليم"(127 د)، الحائز على "جائزة الجمهور لصندوق هوبرت بالس" في مهرجان روتردام بهولندا، مع تصدّيه الى وقائع "عشق محرّم" بين رجل وامرأة بسبب ولاءات ومرجعيات وحرب راسخة بين محتل وافد وإبن أرض وتاريخ، ضمن مساحة جغرافية متفجّرة، حدّها الأوسع مدينة القدس، ونقطتها الأبعد بيت لحم. حكاية حبّ مدنّس، بين الفلسطيني سليم (أديب الصفدي) الذي يعمل في توصيل الطلبيات، والإسرائيلية سارة(سيفان كريتشنر) التي تدير احدى المقاهي في القدس، تتحوّل الى معركة متداخلة النوايا أخلاقياً وسياسياً. المشكلة، أن الحبيبين متزوجان. الأول، من سيدة فلسطينية حامل بوليدهما البكر(ميساء عبد الهادي). تسعى، إثر تعقّد قضية إعتقال زوجها، الى إنقاذه بأيّ ثمن، وإنتشاله من ورطته. أما الثانية، فمتزوجة من ضابط في الوحدات الخاصة التابعة للجيش الإسرائيلي، يواجه عواقب صارمة بسبب خيانتها مع "عدو"، قبل ان يبحث شخصياً عن ثأره. يصبح الحبيبان أُضحيّتين لدوافع مقت متبادل، ونفاق إجتماعي، وتفسيرات متناقضة للعدالة.

صاحب "أحلام"(2006) و"إبن بابل"(2013)، المخرج العراقي الهولندي المقيم في بريطانيا محمد الدراجي، هو أكثر إبناء جيله نشاطاً. فسينماه حمّالة لقصص خطوب يصادفها إبناء بلده، وويلات نالت من نسيج إجتماعي عريق ومتنوّع. حكاياته، في الغالب، مأخوذة من وقائع جرت على/في أرض الرافدين، ومسّت إرادات إنسانية تجد نفسها تحت رحمة سؤال كبير حول الوجود بمعناه المطلق، والأمان الغائب بسبب عداوات أهله، والشكيمة العاجزة لكثرة بلاياها.

هكذا، تصبح الشخصيات الثلاث في باكورته "أحلام" في جيلانها المحموم في شوارع بغداد وأحيائها ، تعبيراً حيّاً عن بحث أرواح هائمة لمأمنها من دون فلاح. ان خراب هجوم "الصدمة والرعب" الأميركي قتل الرحمة في القلوب، فيما نتابع هذا الجيلان مرّة أخرى مع سيدة عجوز يرافقها حفيدها الصغير في بحثهما عن إبنها ووالد الطفل في سجون العراق ومعتقلاته ما بعد الإحتلال الغربي، في عمله الثاني "إبن بابل"، يقودها إيمان طاغ وعزم فطريّ في أنها ستصل اليه، كي تجتمع الآصرة العائلية ثانية.

في جديده "الرحلة"، قصّر الدراجي من ذلك الجيلان ليضعه مكبوتاً وشخصياً بين شخصيتين يافعتين، تجمعهما أرصفة المحطة العالمية للقطارات، ذات البناء العريق والمميز وسط العاصمة بغداد، وساحاتها وردهاتها ومحيطها، لنتعرف على الشابة سارة التي تدخلها حاسرة الرأس، وقد تزنّرت بحزام ناسف. اليوم، هو الثلاثين كانون الأول(ديسمبر) 2006 موعد إعادة المحطة بعد إغلاق مديد بسبب الحروب المتوالية(وللمفارقة، هو يوم إعدام صدام حسين!). يبقى تردد الصبيّة ملّتبساً في هذا المقطع، مثلما يكرسه الدراجي توّرية لحالات إستثنائية يمرّ بها العراق المحاصر بإطماع محيطه، كما هو حال الحرب التي تعجز ان تتحول الى أهلية، ومثل الحزبية التي ترفض ان تنزع جبّتها، وكما التصفيات التي تغويها الطائفية، والفساد الذي لا يخجل من أن يكون عُرْفاً عائلياً.

عزم سارة (إداء قوي من الممثلة زهراء غندور) يتعقّد حينما تلتقي بالشاب سلام (أمير علي جبارة) الذي ظنها بائعة هوى، قبل أن تأخذه رهينة داخل مستودع، كي لا يفضح أمرها، بعد أن هدّدته بالحزام، فهدفها إغتيال مسؤولين كبار وسفراء غربيين، وتطهير "عراقها" من دّنس الإحتلال. وكما هي سوريالية الحالة العراقية، يتقاطع الشاب الهامشي فجأة مع سيدة منقّبة تطاردها الشرطة، وتضع بين يديه حقيبة، قبل ان تفرّ هاربة، ليكتشف في داخلها رضيعة، وحينما تطالبه سارة بالتخلص منها، يرفض بحسم، وكأن الإنقلاب الكبير في شخصيتها ومناوراتها، يحتاج الى هذه الممانعة، كي تستدعي ما تبقى من إنسانيتها، وتختار الحياة الذي يتجلى بصرختها نحو نور ساطع، معلنة تّشكيكها بوعد خلاص، إكتشفت خداعه.

فيلم الدراجي(ولد في بغداد 1978)، الذي لن يغادر محطته، هو لعب درامي مصوّر بروح تشكيلية مميّزة ومدروسة، حول الزمن الذي يترقّب إنفجار حزام موت، لكنه أيضا يذهب نحو المشاعر كي يشحذها ويصقلها، محتفياً بكم كبير من الشخصيات العادية، التي تحيل المكان المحصور الى حيوات متفجّرة، تغذّو سّيرها رغم كل الرعب من حولها. هذا الإرتياع، يصبح عائلياً صرفاً في باكورة التونسية سارة عبيدي "بنزين"(89 د). بطلاه، الزوجان حليمة وسالم، يكتشفان رحيل إبنهما الوحيد أحمد، وإختفاء أثاره في المتوسط، خلال محاولته العبور الى أوروبا عبر إيطاليا. تطلّ محنتهما عبر سؤال مفجع، كيف غفلا عما كان يدور في باله، ويخطط له سراً؟. يداور شريط عبيدي، بفطنة درامية باهرة، محنة والدين لا يجدان مَنْ يسعف حرقتهما التي تزداد إشتعالاً، بسبب غموض مصير فلذة كبدهما، كما هو حال البنزين المهرَّب من ليبيا، والذي يبيعه الأب سالم، من أجل تأمين حياة متقشّفة، مليئة بالأسى والخسائر وعبث الإنتظار.

يترسّم هذا العبث، في باكورة الجزائرية ياسمين شويخ "الى آخر الزمان"(93 د)، كحالة زمنية ثقيلة الوطأة، لا يمكن تعجيلها أو إزاحتها، ولا يتبقى لبطلتها العجوز جوهرة سوى عيش كل لحظة فيها، والإيمان بانها قدر ربّاني عظيم، يقود دوما الى المحبة وصفاء الروح. عليه، يفهم مشاهد شّريط شويخ خيارها الصائب في إنتخاب مقبرة سيدي بولقبور، الواقعة عند حواف العاصمة، كمكان وجودي، يشهد ولادة حبّها مع حفار القبور الستيني علي، والذي تلتقيه عند زيارتها لقبر شقيقتها، للمرة الأولى.

الوجود وتقلّباته، هو ثيمة العمل الخاطف بجمالياته وسكينته وعمق بصيرته، للتونسي علاء الدين سليم "أخر واحد فينا"(94 د)، إذ يتحوّل قرار شاب أفريقي (جوهر سوداني) في عبور الضفة الجنوبية للمتوسط نحو أوروبا، وضياعه في مكان مجهول وغريب، الى رحلة إستكشافية ذات معان فلسفية معقّدة حول الجور الإجتماعي، وطغيان السطوات التوتاليتارية، وأنانيات البشر. تضع السورية غايا جيجي، النزعات الذاتية لبطلتها الشابة نهلة، في باكورتها "قماشتي المفضلة"(95 د)، كتورية على حالة عامة عصيّة، على الحل أو الفهم، في بلاد تواجه إستحقاقات حرب عبثية. دمشق عام 2011، تستعد الشابة للإقتران بمهاجر سوري، يعيش في الولايات المتحدة، ما تعتبره تمهيداً لخلاصها من حالة حصار ووجع خيبات، بيد ان الشاب سمير يختار شقيقتها الصغرى لزيجته المرتقبة بدلاً منها، لينهار عالم نهلة دفعة واحدة، وتغرق في عبثية حياة بلا مشاعر، وتهويمات حب لن يتحقق. تكتشف الشابة، عبر تعرفها على جارة غامضة، عالماً سحرياً وشبقياٌ، في شقتها المرفهة التي حولتها الى بيت دعارة.

أما العجوز المستوحد محمود(محمود حميدة) في شّريط المصري تامر عشري "فوتوكوبي"(90 د)، فيكتشف ان إعراض الزبائن عن محله المتخصص بتصوير المستندات، هو الإيذان الطبيعي الى موت عالمه القديم، رغم ان الحب في كيانه مازال حيّاً لجارته صفية التي تعيش وحيدة أيضا، بعد أن مات زوجها، وسافر ابنها للعمل في الخارج. يستمريء فيلم عشري الرومانسية عنواناً لكائنات تبحث عن مخرج لوحدتها، عبر حميمية مغيّبة. على النقيض من هذه الوحدة الإنسانية، يجمع اللبناني لوسيان بورجيلي في "غداء العيد"(91 د) عائلة مسيحية باكملها تحت إشراف عميدتها جوزفين، التي تجد نفسها سعيدة للمرّة الأولى منذ سنتين، حين يلتئم أحبتها المتباعدون حول مائدة غداء عيد الفصح. يبدأ الحشد كفرحة جماعية، لكنه ينتهي كحرب أهلية لبنانية تقليدية، حيث ان الخلافات هي جزء من حركية الشخصية اللبنانية التي لا تهادن بسهولة، بسبب إزدواجيتها، ولا تتيح للمناورة  مجالاً في حساباتها الشخصية، بسبب تحزَّبها لوجهة نظرها.

التعارضات أيضا، هي أساس باكورة المغربية خولة أسباب بن عمر "نور في الظلام". رجل كفيف يحلم ان يصبح مقدم نشرة أخبار، يقع في حبّ طالبة في معهد السينما. هذه حكاية إستعارتها المخرجة الشابة من زوجها رؤوف الصباحي حول والده رشيد، وهو من الوجوه المعروفة في الوسط الإذاعي المغربي، وشغفه بالسينما وإستمتاعه بها سماعاً، نظراً لعاهته. فيلم أحاسيس في المقام الأول، يجتهد في جعل مشاهده وسط حالة من تساؤل متقابل حول قوّة البصيرة وحِدَة التفرّس وشجاعة الحلم وسورة الوعي، إزاء عالم مظلم ومنطفىء وحاجب للنور وقامع لزمن كوني خارجي.

في حين، يروي الشريط الكوميدي "بلاش تبوسني" للمصري أحمد عامر قصة المخرج الشاب تامر الذي يتعرض إلى صدمة عند تصوير فيلمه الأول، بسبب إنسحاب النجمة أثناء التصوير، وقرارها باعتزال التمثيل، وإرتداء الحجاب خلال مشهد حميمي تتخلّله قبلة، تعد عنصراً محورياً ضمن أحداث الشريط. يجعل هذا الإنقلاب من عمل تامر أشبه بمعركة شخصية ضد الجشع والتآمر والإستهانة والبحث عن الفضائح الرخيصة والإعلام التسفيهي.

سينماتك في ـ  28 يونيو 2018

 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2018)