دراما عائلية موغلة بالوحشيّة. تتداخل فيها أعراف
الإيمان وطقوسه وتنبؤاته، والإنتقام وخطاته،
والإستحواذ وشياطينه. الباكورة الروائية للمخرج الجنوب
أفريقي من أصول أغريقية إيتين كالوس، تضيف بُعداً آخر
للضغائن البشرية وعدائيّاتها، عبر مقاربتها أخلاقياً،
حيث ان مرتكبيها لا يُعاقبون ضمن قانون زجري عابر،
وإنما بشرط عقائدي تعميدي، لـ"إنهم إستسهلوا خيانة
الرّب، وغدروا بمحبته". حكاية الشاب جانو(برنت
فيرمولنت) القاطن مع والديه، في مستعمرة للأقلية
البيضاء في إقليم"فري ستيت" الواقع وسط البلاد، التي
يصفها كالوس بإنها "حزام الكتاب المقدس" في جنوب
أفريقيا. أرض حقول ذرة ممتدة على مدى البصر، وبيوت
معزولة وكئيبة لمزارعين مهووسين بإقدارهم الأوروبية
المقطوعة الجذور، والأعداد الوافرة بلا تبرير من كنائس
شديدة التقشف. إنها قلب الثقافة الأفريكانية حيث تقع
تلك البؤر الكولونيالية وسط العدم، بل "يمكن القول
انها تنتمي الى أماكن سماوية، ومع ذلك توجد شبكات
حديدية على نوافذ منازلها لحمايتها من الهجمات"، يقول
كالوس، مضيفاً: "هناك خوف يعم المحيط، ويضيق الخناق
على قاطنيه. إن شيوع أخبار تصفية مزارعين وقتلهم
بشناعة، هو أمر يومي. أصبحت الفكرة القائلة، انه يتوجب
على الحكومة المركزية مصادرة تلك المزارع من ملكية
الأفريكانيين البيض لصالح السكان السود، ذات مرجعية
سياسية متعاظمة".
عليه، فان الصراع في "الحاصدون" يدور بشكل حاسم حول ما
الذي يعنيه مفهوم "الإنتساب"، الذي يتجلى في حالة جانو
ضمن طابع أُسري مأزوم، على إعتبار ان العائلة تمثل
منطقاً وجودياً للمؤسسة الإجتماعية وتماسكها وإنتمائها
وسلالاتها. من هنا نشهد إنقلاب حياة البطل الشاب،
حينما تتبنى السيدة المُتَزَمّة دينياً شاباً يتيماً
يُدعى بيتر"لإنقاذ من نفسه وإدمانه"، وتطلب من الأول
إتخاذه شقيقاً. ليشرعا فوراً في معارك غدر وقسوة في ما
بينهما، للإستيلاء على سلطة وإرث وقلب أم غافلة عن
دنائتهما.
تبدو الحماسة الدينية، التي نسمع الكثير من تضرعاتها
على لسان المرأة المستوحدة، وهي بين جدران منزل محاط
بالظلال والكبت والتآمر، ملعونة لإنها لا تُوقف
إستهداف المآثم لذمتي شابين متناقضين في السلوك
والنشأة والعزم. ففيما ينخرط جانو في حياة فلاحية
مقنّنة، يرفض بيتر(ألكس فن دايك) عبوديتها. وبينما
يسعى الإبن الصالح والرزين الى صون سمعة عائلته
وتاريخها وأعرافها، يكون "الأخ الوافد" جاهزاً على
الدوام لإستعداء الجميع له. متورطاً، على الدوام، في
معارك دموية. أنه روح ما بعد كولونيالية مرجومة وعصيّة
على التطويع و"التدجين". مغامر ذو عزم على التزاحم
والتمايز، تصّر الأم (جوليانا فينتر)في مشاحناتها مع
جانو انها لن تترك "روح هذا الطفل تائهة في ظلمة
موحشة، ولن أقابل قيامتي وأنا أحمل هذه الخطيئة". ما
يبدأ بينهما كـ"حالة كرّ وفرّ"، تنتهي بحصاد غادر شبيه
بحكاية هابيل "أفريكاني" وقابيل "لقيط"، حيث يظن الأول
ان الأخر إنما جاء كي يخترق أسرته، ويسرق مكانته، لذا
نراه ضحية هواجس ومخاوف مريضة، تُحاط بوفرة صوتية من
همسات وتلميحات(تُذكر كثيراً بعوالم الأسوجي إنغمار
برغمان)، تدفعه لإستنباطات متضاربة بما يريده والداه.
وهل هما أكثر ميلاً للغريب من نُّطفتهما الحقيقية.
بما ان حكاية "الحاصدون" تدور ضمن عوالم خير وشر، فان
الثقل الأكبر فيها يكمن في منظور يقيني معقد، شكله
مدير التصوير البولندي الذائع الصيت ميخائيل أنغلرت،
من تقابل متضاد بين مشهديات بريّة مفتوحة الآفاق
وضبابية وساحرة، وبين تصميمات داخلية سوداوية ومكتومة،
صورت في المشاهد الإفتتاحية بكاميرة ثابتة، تتحرر
لاحقاً الى لقطات مطوَّلة لكاميرة محمولة، قبل ان تعود
مرّة أخرى الى لقطات ثابتة، مغلقة بذلك دورة درامية
توسم تحولات شابين متناحرين بشارات موت رحمتهما. يدفع
هذا النظام التصويري المغامر مشاهده الى أقصى حالات
التوجس من حمام دم، يصبغ النفوس بكفر عائلي، لا غفران
فيه البتة، ذلك ان "الروح الواحدة، في هذا البيت
المرجوم، إنقسمت الى فصائل متحاربة. ان الحب والكراهية
إختلطا معاً، كما لو كانا رقصة أبدية، تكشف ان دوافع
الهيمنات ونقض العهود غير قابلة للسيطرة أو المهادنة"،
على حد وصف كالوس الذي حاز شريط تخرجه "المولود البكر"
على جائز "الأسد الذهبي" لإفضل فيلم قصير في مهرجان
فينيسيا السينمائي(2009)، ليصبح أول شريط ناطق بلهجة
الـ"أفريكانا"، يخطف تكريماً دولياً مرموقاً، قبل ان
يطوره لاحقاً بمساعدة مواطنته وأستاذته الكاتبة
المسرحية ريزا دي وت(توفت عام 2012) الى سيناريو
"الحاصدون" الذي شارك به ضمن دفعة "سينفاونديشن"
للمواهب في مهرجان كانّ السينمائي (2012)، وعُرض لاحقا
ضمن تظاهرة "نظرة ما" في دورته الـ71(أيار 2018).