سنغافورة معجزة إقتصادية. حقيقية قاطعة. سنغافورة أرض
ميعاد أسيوية لا نظير لها. حقيقة علنية. سنغافورة جنة
هندسية خلّاقة الأفكار. حقيقة لا تُناقش. سنغافورة
موطن الإستعباد الجديد. حقيقة لا غبار عليها. هذه
فلسفة الشريط الثالث للمخرج الشاب إيو سيو هوا "أرض
مُتخيلة"، المعروض ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان
الجونة السينمائي (20 ـ 29 سبتمبر/أيلول 2018)، الذي
تشابكت فيه بصائر سينمائية. فهو شريط بوليسي، من حيث
إنتصاره الى حكاية محقق محلي يتحرى ملابسات إختفاء
عامل صيني غريب. وهو فيلم نوار، من باب مزاجية أجواء
مكلومة، ومسار مكبوح للا بطل(بطل ـ ضد) يجد نفسه
مجبوراً على تقبل هزيمة شخصية. ونصّ إتهامي لا يخشى
فضح الديموغرافيا المستحدثة ولا مساواتها، في مجتمع
ديناميكي وثري، يسعى حكامه الى بناء متروبوليس عالمي،
لن ترعبه الأكلاف، ولا يلتفت الى أرواح مَنْ تشيد
ناطحات سحبه. هؤلاء غرباء يُستقدمون من أطراف قريبة،
ويُذلون الى أقصى درجات العبودية، لن يصبحوا (أو يجرؤا
على ان يكونوا) يوماً ما جزءاً من أمة، يجهدون في بناء
بذخ مستعمراتها.
فيلم "أرض مُتخيلة" مسيس الى نخاعه، لكن من دون ان
يقول كلمة نقد، أو يورد غمزة طعن. أنه أذكى من مباشرة
فجة، وأعمق في رؤية سوداوية لمفهوم "المتاهة الأسيوية"
التي تعلف حيواناتها قبل سلخها. يفتتح إيو سيو هواعمله
الزاخر بالألوان الفاقعة على مشهديات لمعامل تنفث
سمومها في سماء حزينة، بلا نجوم حقيقية. مصانع مضيئة
تدل على همة مجتمع جاد ومجالد ومحظوظ، "إصطاد" فرصة
نادرة، ليحول بلده من ثكنة بريطانية تابعة الى أهم
مركز تجاري مستقبلي، ينافس نمور أسيا بجدارة. هذه
اللقطات المثيرة بزينتها، تكشف عن حيلتها لاحقا، حينما
يتبين لنا انها مصوّرة من الجانب المعدم. من أرض
الرقّ، مستعمرة عمال مهاجرين منخفضي الأجور. يعيشون في
غرف جماعية ومكتظة ومتعفنة. يواجهون عسفاً إدارياً،
حيث لا نقابات تضمن حقوقهم. لمعرفة هذا، ينظم صاحب
"بيت من قش(2009) سلسلة تعريفية، عبر رحلة صامتة
لرجليّ الشرطة وهما يتحريان أثاراً ضائعة لرجل بلا
تاريخ، بعد ان رفع إعتراضاته ضد إدارة معمل محلي،
يملكه رجل سليط بلا رحمة، ومعه إبن شاب يعرف جيداً انه
سيرث يوماً ما أمبراطورية والده.
يلتقي لوك(الممثل بيتر يو) بإرادات بشرية مهزومة
ومستوحدة ومرعوبة من السؤال أو إستفساراته. أنهم هنا
للعمل فقط. تحصيل مرتب هزيل وإرساله لإم أو زوجة على
طرف أخر من أرخبيل طويل ومزدحم بصفقات كبار، وصراعاتهم
الإمبريالية. عمال يجب عليهم ان لا يتورطوا مع أقطاب
أو مافيات. كائنات سُخرة لا مكان بين أجندتهم اليومية
لنضال طبقي او سياسي. فهذه أمور مثالية لا تقود سوى
الى تهلكات.
لوك يبحث عن وانج(الممثل المسرحي المعروف ليو تساوإي)
لكنهما يتخاطبان عبر شخصيات(عامل بنغلاديشي، شاب صينية
مهاجرة) ووسائط ثانوية(مقهى أنترنت حيث يفرغ الوافدون
غضبهم عبر حروب مفترضة!)، بعضها متورط في إختفاء الشاب
الغريب، وأخرى تحاول التملص من مأزق حياتها، الذي
قادها الى أرض غدارة، كان يُفترض ان تضمن لهم عيشاً
كريماً، قبل ان يكتشفوا أنهم ضحايا إستعباد، وسرقة
حقوق، وسفك دّم. يقوم "أرض مُتخيلة"، الحائز على جائزة
"الفهد الذهبي" في مهرجان لوكارنو السينمائي(آب /أغسطس
2018)، على سؤال ضميري جارح: هل الغريب بلا حُرمة أو
كفالة حياة؟ هل عصرنا التكنولوجي الذي أسقط الحدود،
وأغوى الملايين بهجرات غير منصفة، قائم على قيم لا
تملك ذمّتها الحقيقية، فتبيح القتل والتصفيات وسرقة
اليقين؟. هذا فيلم عوالم في المقام الأول، يتحرك ضمن
جغرافياتها، بشر مذلون ومقصيون ومقهورون. المحقق لوك
رجل مستوحد، وعالق في عزلة حياته الخاصة، يعاني من
متلازمة عدم النوم وفشله في الحلم، وهذه شكل من أشكال
الموت، التي تجعله تهويماتها أشبه بـ"زومبي أصفر"،
شحيح الكلام، كاتم لعنفه. أنه نيّة إنسانية تسعى الى
حق، لذا فهو أسير أماكن متعفنة، وفارغة، ومفتوحة على
أفق وحشي تحرسه مشاهد ابراج صناعية، تنجس السماء،
وتغتصب الأرض. فيما ينال وانج "تعميداً تطهيرياً
باهراً"، عبر تضامنه وجدانياً مع عمال بنغلادشيين، قبل
ان يتورط في الدفاع عن أحدهم ضد مدير معمل خراطة
الحجر، الذي "يصنع الأرض عبر طمر البحر كي نستأثر
بها"، كما يقول إبنه جيسن بصلافة. ان إختفاء وانج، هو
تبرير لمسيرة مضنية للشرطي وتحولاته الشخصية المريرة،
التي بدأت من الغرف المشينة للعمال الأجانب، و"عدم
قدرته على التفكير خارج حدود الذات وتخيل الآخر" حسب
المخرج هوا، وتنتهي برقصته المجنونة مع الأسيويين
قبالة البحر الواسع، ليتسائل، وهو ينظر مباشرة إلينا
عبر عدسة مدير التصوير الياباني هيديهوأوراتا: أيّ
مصيبة تسرق منا إنسانيتنا؟