كل شريط يحمل مقارباته، بحسن نية أو من دونها، الى
المعايير العامة لمجتمع ما. في غالبية الحكايات، يصبح
الصراع موجهاً نحو الإختيار الفردي لبطل (ة) تحديداً،
بإعتباره (ها) كينونة العالم وضميره وحاكمه وضحيته في
آن. ان ثنائيتهما جوهر الحجة القائلة بأن ملكوت الله
ضد وقوع البشر ضحية تناقضاتهما التي تعمم التبرّم
والمكائد. ما هو الأجدر، السعي الى تنمية إدارة حظوات
الكون التي يباركها الرب لبشره، لإنهم وحدهم ـ كأفراد
ـ المسؤولون الوحيدون عنها. في الفيلم التأملي المدهش
للإيراني محمد رسول أف "السهوب البيضاء"(2009)، يجمع
البطل رحمات دموع الشقاة وحكايات أحزانهم في قوارير
زجاجية، ليقدمها قرباناً جماعياً الى قوّة خفية،
تحولها الى لآليء أزلية، تخفف من شجون مكلوميها
وأوزارهم، في إستعارة حيوية لإشتغالات التشيلي
أليخاندرو جودوروفيسكي. بيد ان "خدعته" التي تدور بين
سكان بحيرة أرومية الملحية، وعوالمها السحرية
والمعزولة، تنطلي على السذج منهم، وأهل الإفتراء
بينهم. فمعاييرهم قائمة على رضوخ لقدر يقوده مشعوذون
ومكارون. بينما يصوب رحمات حظوة الحزن الى مرجعيتها
الربّانية الأولى: موت البحيرة بسبب تصاعد ملوحتها،
وعجالة جفاف مياهها نتيجة للإحترار البيئي. في إشارة
الى ان سكان الجزر الملحية تخلوا عن مسؤولياتهم في
الدفاع عن محيطهم وبيئتهم، وبقوا أسرى جهالاتهم،
متجاهلين دعوة صريحة الى تجنب خطر فنائهم(هناك من
يراها، تورية سياسية على إنهيار قيم مجتمعية في إيران
من دون مسوغ مقنع!).
هذه الجهالة، تتجلى بقوة درامية في نصّ الزوجين
الروسيين ناتاشا ميركولوفا وألكسي تشوبوف "الرجل الذي
فاجأ الجميع"، والمعروض ضمن المسابقة الرسمية للفيلم
الروائي في الدورة الثانية لمهرجان الجونة
السينمائي(20 ـ 29 سبتمبر/أيلول 2018)، اللذين إختارا
موقعاً سيبيرياً نائياً، محاطاً بمساحات برية كابوسية
ـ على عكس ملح رسول أف ـ يجول بين أرجائها بشر،
معيارهم الأساسي البقاء أحياء ضمن مناخ عدائي. فلاحون
يؤمنون ان حكايات شعبية التي تداولتها أجيالهم، ما هي
سوى الوجه الأدبي لـ"عنادهم" الجماعي ضد الموت. بيد ان
القضاء الرّباني أمر لا راد فيه، فالحل الوحيد
للإستمرار هو التحايل عليه قدر المستطاع. قد تبدو هذه
الفكرة طوباوبة ومدسوسة، لكنها، في وجوه حكمتها
المتعددة، انها تمثل نذالات البشر وإنهزاميتهم أما
قوّة قاهرة. وهذا الضبط، ما يحدث لبشر رسول أف الذين
"يتبرعون" بدموعهم وكربهم، لصالح بائع متجول على أمل
أن يَفك مأسيهم، في إلتفات متواطىء وجبان ضد تجميع
شجاعاتهم ومواجهة إستحقاقات حياتهم التي تدمرها
تغييرات طبيعية، تمس في الأساس إيقاع حياتهم ومستقبلهم
وقوتهم. بمعنى أن معاييرهم الجماعية، تخسر إنتصاراتها
الأزلي لصالح أنانياتهم.
يشع هذا الإندحار بنظرات أكثر عقلانية وخفة، من إشتغال
رسول أف المُغرق بجمالياته وتفلسفه المغلق، عبر حكاية
إيغور(40 عاماً)، زوج شاب محبوب ومقدام، وأب يحترمه
أهالي قرية نائية. يعمل حارس غابات، لمصلحة شركة بيئية
محلية. مهمته مطاردة صيادي قبائل "التايغا"، ممن
يخرقون القانون، ويقتلون الحيوانات البرية غيلة. هو
وزوجته ناتاليا(ناتاليا كودرياشو) يتوقعان طفلاً أخر.
فجأة، يكتشف إصابته بورم سرطاني، لن يمهله أكثر من
شهرين. تنقلب يوميات العائلة الصغيرة الى وجع جماعي،
رغم إحتشاد الجيران والخلان من حولها. ذات يوم، يصادف
سيدة بوهيمية وسط الغابة، تحكي له إمثولة من
الميثولوجيا السيبيرية، عن بطة خدعت الموت، حينما
تعفَّرت بالتراب، وحوّلت ريشها الى لون رمادي، لتتشبه
بإوزة!.
هذا الخط الدرامي المتباسط الذي إستند على ذكريات
مخرجة الفيلم ناتاليا ميركولوفا، يتطور بهدوء نادر،
ضمن تقشف حكائي، ونأي حصيف عن الوقوع في إغواءات إثارة
هابطة. ان الخطوة اليائسة لإيغور(إفيغيني تزغانوف) في
مخادعة موته، بعد ان فشل الطب في إنقاذه، ستُفاجأ
الجميع حقاً، حينما يقرر تغيير هويته تماما!. ما يقدم
عليه البطل في تخفيه تحت طلّة امرأة، تقلّب إعتبارات
أخلاقية، وتمس حشمة الكومونة الريفية، وقانون "الجندر"
الأزلي. لن يضع الثنائي ميركولوفا(1979)/تشوبوف (1973)
كلمات شعاراتية رنانة ،على لسان شخصياتهما، حول العيب
والخزي ومصائب سوء القصد والنقائص، بل يختاران بفطنة
درامية خرس الجميع. يعم الصمت في المقطع الأخير، لأن
الكلام يصبح هراء أمام إصرار البطل على لعبته الغامضة
في التحايل على قدر لا فكاك منه. أمام غدر الأخرين، لن
يتبقى لإيغور سوى اللجوء الى غابته التي دافع عنها
ومخلوقاتها، حيث يتم "تعميده" على يد زوجته الشابة،
إيذاناً بتحوله الى كائن أسطوري حداثي، حاول مخاتلة
حتفه، من دون ان ينبس بكلمة واحدة، وسط فردوس لا مثيل
في فتنته. ان أيغور "يبيع" هويته وإنتمائه الجنسي، رغم
أن لا شيء حقيقي أو حاسم، يمس رجولته وصفاتها
وتمايزاتها، بل وحتى قناعات الأخرين بها والتي تتجلى
بعدائياتهم، وهم يوجهون قبضاتهم الى جسده عقاباً، أو
ان يعمد صيادو غاباتهم الى إغتصابه "لإنك ترغب بذلك"،
كما يصرخ أحدهم في وجهه المعفر بتراب الأرض الوحشية.
يخسر مجتمع رسول أف لعبة دموعهم لإن الحياة يسيرها
قانون جبار، لا رغبات رعيتها. وهي الحقيقة التي يصل
اليها شريط ميركولوفا/تشوبوف والمتمثلة بأن المهزمين
لا يحقق لهم الإحتجاج أو الإستنكارأو المداهنات.