كلًّ الحياة، في جديد المكسيكي ألفونسو كورون
"روما"(128)، المعروض ضمن "القسم الرسمي خارج
المسابقة" للدورة الأربعين (20 ـ 29 تشرين الثاني/
نوفمبر 2018) لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي،
تُصنّع حسب تراتب رياضي وهندسي سيّال لا ينضب. انها
سيرورة عائلة وسلالاتها وأزمنتها وطبقاتها ومستقبلها،
والأحداث التي تقود أفرادها نحو فتواتهم ومآلاتهم.
إنها كذلك، بلاد جعلت من الأعراق مفتاحاً للغبن وسرقة
الأصل، ومن المحتل الأوروبي سيداً وصاحب مآثر ومُسَيّر
إرادات وحكام، ومثلها سياسات تكرس فوارق فئوية وعداوات
جهوية. إنها أيضا، أعمار تتوارث خيانات ونظرات دونية
لبشر تتحكم في مسلكياتهم أنانيات ناقصة ومُداهنات.
نصّ كورون هو فيوض من المودات داخل أسرة تتفكك، بيد ان
روحها وضميرها ممسوكة بإرادة نسوية مكتومة، تجترح
الشجاعة رغم إنكفائها الإجتماعي والإعتباري. هذه امرأة
سجينة أصولها من السكان الأصليين، تشرف من دون كلل على
أطفال عائلة من طبقة برجوازية، وتنظم نشاطاتهم، حيث
مظاهرها ورياءها فَرْض، وإنكساراتها الأخلاقية قدر.
شابة تتحرك في حيز أبيض اللون والعرق. يعتبرها الصغار
ملاكهم ومرحمتهم، فيما يراها البالغون مدبرة منزل،
عليها إتمام واجباتها وطاعة الأوامر والحرص على عدم
إرتكاب عثرات أو آثام. كليو(إداء لافت من ياليتسا
آباريسيو، وهي معلمة في مدرسة إبتدائية، إنتقاها كورون
بحنكة) تعمل ضمن منطق إذعان لكن من دون عبودية. لا
تأمر ولا تناقش ولا تختلس وقتها. هي مفتاح كل شيء،
يستطيع ان يفتح العواطف ويؤججها، كما في حالة الأم
صوفيا(مارينا دي تافيرا)، وهي عالمة في الكيمياء
الحيوية، التي تواجه محنتها بصبر ومخاتلة، بشأن قرار
زوجها في التخلي عنهم، لصالح امرأة عابرة، أو يكتم
(ذلك المفتاح) أسرار الخطاة، كما في حالة هذا الأخير
الذي يكشف عن كذبة سفره الى كندا لتغطية زناه، أو يغيث
مَنْ يرتكبون حماقات وسذاجات، كما في المشهد المفعم
بالرعب، في محاولتها إنقاذها صبي العائلة وشقيقته من
الموت غرقاً.
كليو هي دينامو الآصرة الحقيقية لأسرة مكونة من أربعة
أطفال وأمهم وجدتهم المقيمة في دارة فسيحة، تقع ضمن حي
يدعى "كولونيا روما" في مكسيكو سيتي، على قدر واضح من
الرفاهية، لكن بين جدرانها وغرفها وزينتها وعوالمها،
تسكن تفاصيل هزّة مقبلة مفترضة، تحيكها شخصية بطريرك
أبوي يدعى أنتونيو(فرناندو غردياغا)، تُعلن عن تفكك
عائلة وموتها. ان إنتشار مخلفات كلب العائلة "بوراس"
في محيط مدخل الدار، ومحاولات البطلة وزميلتها أديلا
في تنظيف الأرضية منها، خصوصاً المشهد الإفتتاحي
الباهر لماء سّطْولهن، وهو يطهّر بلاطها، مع إنعكاس
صورة طائرة تجارية تمر سريعا فوق دفقاته، إشارة مكررة
من كورون الى ان خراباً ينوس فوق رؤوس الجميع في عالم
متغير، يبدأ بزلزال وينتهي بمجزرة سياسية ملعونة ورصاص
غدرها.
فيلم كورون ذو نُزُوع نسويّ مغرق بتعاطفه وعلاقاته
الحميمية. مُحّمل بدفق من الحَنْيَة السينمائية على
بطلاته، وعلى ملماتهن الشخصية. تقول الأم المثقفة
لراعية أطفالها: " بغض النظر عن ما يخبرونك به. نحن
النساء نبقى على الدوام وحيدات". وهذا تلميح فطن الى
خيانات يتعرضن لها تباعاً. تتحرك صوفيا بحذر بين
الجميع كي لا تكشف عثرتها الشخصية بزوج خؤون، أو تهز
صورة الأب أمام ذريته، الصاخبة بحيويتها، التي ترى فيه
طوداً من شموخ شخصي وعراقة أرستقراطية وهيبة سطوة
ماحقة ، فيما نتابع حرقة كليو في البحث عن والد
جنينها، كي تقنعه بإبوته، بيد ان غدره ورفضه تحمَّل
مسؤولية أفعاله، لن يكتملا من دون شتيمة قاسية، يرميها
على كيانها المخزي، حينما يوصفها وسط عراء ساحة
تدريباته، التي شهدت قبل قليل معجزة البروفيسور زوفيك،
وهو"غورو الإرادة الصافية وقوة التوازن المثالية"،
بشتيمة عنصرية بإعتبارها "عاهرة ريفية"(إشارة الى أصول
عرقها الذي يُنظر اليه كشّيْن إجتماعي). حينما تلقي
كليو نظرة أخيرة على جنينها الميت، وهو في حضنها داخل
غرفة الولادة، يصبح على مشاهد "روما" التخلي عن دهشته
بعوالم كورون، أوالتعرف على تفاصيل وإشارات منثورة
على أكسسوارات مشهدياته، على شاكلة ملصق كأس العالم
عام 1971، أو لقطات من كوميديا الفرنسي لوي دو فونيس،
أو ملصق شريط المغامرات الفضائية "المنقطعون" للأميركي
جون ستيرجس، والإنخراط كلياً في عالم من نشوة درامية
خالصة تحتفي بجذر إنساني لن تقتلعه نوائب. يحدث إنقلاب
امرأتي صاحب "وأمك أيضا"(2001) و"جاذبية"(2013) بشكل
متداخل، حيث تستجمع صوفيا شجاعتها، وتعلن عار الأب
الخائب وظروف هروبه، فيما تقود كليو نفسها نحو أمومة
متجددة وراسخة بإنقاذ "طفليها"(الأوروبيين الأصول) من
غرق حتمي، ليُشكل كورون لقطة إيقونية لا مثيل
بهندستها، يتجمع فيها الأطفال وأمهم محتضنين "مريم"ـ
هم، وكأنهم هالتها، فيما تثور خلفهم موجات بحر عارم.
قبل هذا، يتحقق للمظلومة كليو رؤية حقيقة عشيقها
فيرمين(خورخي أنطونيو غيريرو)، الذي طالما تحدث لها عن
فقره وعوزه، كعضو في كتائب عسكرية ضاربة معروفة بأسم
"لوس الكوانوس" مشهود بفاشيتها، تُكلفها السلطات
بتنفيذ مهمات قذرة لتصفية معارضين ومحرضين ومتظاهرين.
تشهد البطلة إغتياله لطالب شاب، لجأ الى متجر تصادف
وجودها فيه لشراء مهد لطفلهما!، والحدث مستول من وقائع
ما يُعرف بمجزرة "كوربوس كريستي" التي شهدتها مكسيكو
سيتي في حزيران/ يونيو 1971. ان الثنائي كليو/ فيرمين
محاصرين بقدر منبتهما وهامشيتهما الإجتماعية، وهو
مقابل عقائدي يضعه كورون بعناد سينمائي أمام نقاوة
الطبقة الأخرى وسطوتها، مثالها البيّن المشهد الباذخ
بتفاصيله لحفل رأس السنة، والذي تجري تفاصيله في قصر
ريفي منيف، ينتهي بفاجعة حريق لغابات محيطة به. نرى
السكان المحليون يناضلون من أجل إخماد نيرانه وعدم
إمتدادها، بينما يدور البرجوازيون وهم يصرخون
بأوامرهم، حاملين كؤوس النبيذ بين أيديهم. هاجسهم صون
أطفالهم وحماية سياراتهم. أن طبقتهم يجب ان تكون
محصّنة على الدوام.
يُهندس كورون فيلمه على شكل صليب بصري، مصوّر باللونين
الأبيض والأسود، والمؤلفان من ضياء باهر وأصالة تنسيق،
تُذكر برونق شريط البولنديين يوانا كوس ـ كراوزه
وشيشتوف كراوزه "بابوشا"(2013). يبدأ المشهد الأول
لصبيتنا، وهي تنزل من طابق علوي الى أسفل المنزل، قبل
ان تخرج منه، حاملة صرّتها. وهو خط وهمي لحركة
كاميرا(تيلت) ترسم محوراً عمودياً(من أعلى الى أسفل).
وفي المشهد الختامي، تتبع الكاميرا الثابتة البطلة،
بعد ان فقدت جنينها، وهي ترتقي سلماً الى أعلى حيث
الطابق الثاني، قبل ان تلج البيت، فيما تستكمل
الكاميرا حركتها الى السماء وغيومها وطائرتها العابرة،
لترسم محوراً عمودياً (من أسفل الى أعلى)، ليتأكد بذلك
بناء ضلع رأسي خيالي. أما ما تبقى من الـ135 دقيقة من
طول الشريط، فتبقى كاميرة كورون، الذي صور فيلمه بنفسه
من دون إستخدام اي لقطة مقربة لوجوه شخصياته، متحركة
بنظام تتابعي (تراكنغ) ضمن مسار ثابت ومستمر من اليمين
الى يسار مشهدياته(مع إستثناءات تستهدف عمق مجال
الصورة)، راسمة ضلعاً أفقياً وهمياً ومتقاطعاً مع
سابقه، ليتشكل في نهاية المطاف، تصور ذهني وجمالي
لشارة يسوعية، ستقود حكمتها أحدى شخصيات أطفال فيلم
"روما"، وهو كورون نفسه، نحو مجد سينمائي يعيد لاحقا
سرد وقائع طفولته مع مربيته الحقيقية ليبو، موجهاً
تحية لذكراها وعذاباتها وقلبها الرفيف في شريط متكامل
وخلاّب.