تحتشد باكورة التايلندي الموهوب بوتيبونغ أرونبينغ "مانتا
راي"،
التي تستهدي بإشتغالات مواطنه إبشيتشاتبونغ
ويراسيثاكول، وبالذات نصّه الفريد "العم
بونمي يتذكّر حياته السابقة"(سعفة
ذهب "كانّ" 2010)،
بفيوض لا تُضاهى من خيال صوريّ خصب ومبتكر. مسنودة
بخطاب مسيّس حاسم، لكن هادىء النبرة، ودعاوى إنسانية
تناصر ضحايا أنظمة عسكراتية قمعية، من دون إدعاءات
أيديولوجية، وهم هنا قبائل الروهينجا المسلمة، التي
تعرضت الى إنتهاكات عنصرية ودموية على يد طغمة ميانمار. هنا،
لا مشاهد حروب أو قوافل مهجرين أو أكواخ محروقة، وهي
الصورة التقليدية التي ينقلها الإعلام العالمي
لمأساتهم، بل حكاية شاب يعمل صائد سمك، ينقذ رجلاً
غريباً من موت محقق، يصادف جثته ملقية في قبر ضحل في
غابة، خلال بحثه عن طرائده. هذا
هو خيط حكاية بسيطة وإستثنائية. تتعقد
عناصرها من دون عجالات درامية، وتنمو صدفها بين إرادات
بشرية لا لغة تجمعهم، ولا ثقافة مشتركة ترشدهم، ولا
عقيدة متشابهة تنوّر لهم طريقهم الدامس. كلّ
ما يملكونه هو إنسانيتهم النفيسة التي تهديهم نحو
جماعية نورانية، تنتصر للألفة والعون والصداقات.
شريط أرونبينغ(ولد
في بانكوك عام 1976)،
الحائز مناصفة على جائزة الهرم الفضي، جائزة لجنة
التحكيم الخاصة لأحسن مخرج، في الدورة الـ40(20 ـ29 تشرين
الثاني/نوفمبر 2018) لمهرجان
القاهرة السينمائي، ينتصر الى الصمت والضوء واللون،
حيث قلّة الكلام ميزة فريدة، تحيط ببطلين. أحدهما
عازف عنه، لإنه مكلوم بخيانة زوجته له، وهروبها مع
عشيق عسكري، والأخر وافد دخيل أخرسته فظاعات واجهها،
وعانى من دمويتها، جاعلة (تلك
الميزة) من
المساحة الفاضية للسُّكَات بينهما، جغرافية باهرة تشهد
مناوراتهما في"تطبيع" غير
متكافيء. فبعد
ان "يستضيف" الصياد
الشاب، المتميز بصبغة شعره الصفراء، الرجل الغريب الذي
يسميه "ثونجتشي" على
أسم أشهر مطرب شعبي في البلاد، مطبَّباً جروحه، وماداً
إياه بغذاء ودواء، ومثلهما بملجأ وأمان وخبرة وصنعة،
يتحول الأخير تدريجياً الى صنو خفي له، قبل ان يأخذ
مكانه في لحظة إختفائه في ظرف غامض.
هذه المكيدة، سبقتها أخرى ملّتبسة قدمها المخرج
أرونبينغ في مفتتح الفيلم، حينما نشاهد الصياد(وانلوب
رنغكومجاد)،
حاملاً رشاشته وسط ظلمة سحرية، مزنراً جسده بعشرات من
أضواء ملونة، سائراً بحذر مقاتل في غابة مليئة بدورها
بأنوار طائرة، وأخرى متوارية بين أعراش وحجارة. عالم
آسر وغامض، يقوده الى قلب مشهد ضمني صاعق، لمجموعة
رجال يتعاونون على الغدر بضحية ودفنها، رغم أنينها
بلغة غريبة. ترى
هل هو الكائن ذاته الذي يستعمر كوخه وحياته الأن؟. ما
حكاية تلك الأنوار وإحتشاداتها؟. يعتبر
العرف الميثيولوجي السنسكريتي "المانترا" مذهباً
روحانياً. تعني
الكلمة "صون
العقل"،
وتدعو الى تأمل طاقة الإنسان، وشحذ قوى وعيه الصافية،
وترتبط أساساً بإيقاعات خاصة، تسعى في المقام الأول
الى دمج الجسد والعقل معا، وصولاً الى صفاء مطلق. تتحول "المانترا"لدى
المخرج أرونبينغ الى خلاصة ضوئية تأملية، تتعاظم
أعدادها وزينتها، كلما تقدم الفيلم في حكايته
وتفاصيلها. نراها
داخل كوخ الصياد الذي يرفع، بمعونة ضيفه، عشرات من
مصابيحها، قبل ان يشرعا بالرقص تحت وهجها ومع صخب
موسيقي(تأليف
الثنائي الفرنسي كريستين أوت وماتيو غابري). ذلك
ان كلاهما ينشد ـ حسب وعيه وإيمانه وطريقته ـ الوصول
الى تمكين روحي كلي.
يسعى الصياد "الأصفر"،
عبر هذا التمكين، الى التطهُّر من أثم سرّي، يتمثل في
تورّطه بعمليات تصفيات سابقة لمسلمي الروهينجا. عندما
يُخبِر قائده برفضه إستكمال إداء مهماته، يكون عليه
دفع إستحقاق باهظ. أما
الأخرس (الممثل
أبيسيت هاما) فيراها
وسيلة لغسل عذابات محنته، وإندماجه في عوالم لم
يختبرها من قبل. وما
ان يختفي الصياد مع تكليفه بمهمة مبهمة، يحل الثاني
مكانه، مؤدياً عمله بإتقان، ومستقبلاً زوجته الهاربة
والحامل بجنينها الآن(المغنية
الشعبية ذائعة الصيت راسمي وايرانا)،
ومعاشراً إياها كأنه رجلها الأصلي. ان
اللعبة المُحيّرة تأخذ في الإكتمال بين قاتل تلّبس
سحنة ملاك، وضحية إستمرأت عيشاً سهلاً، ولن تتواني من
صبغ شعر رأسها بلون أصفر كي تتماهى مع رجل مغيب، ليبقى
السؤال معلقاً بينهما: متى
تأتي طلقة النهاية المؤكّدة.
في المقطع الثاني من الشريط المُبهر(105 د)،
يُعلِّم الصياد صنوه سرّاً بحرياً ذا مغزى رؤيوي، بشأن
سمكة "المانترا
راي" العملاقة،
التي تأتي الى شواطيء القرية الساحلية نشداناً للأمان
في مواجهة رحلات طويلة وخطرة في أعماق المحيطات، ويدله
على سرّ إغوائها في البقاء لفترات أطول، برمي أحجار
كريمة ذات طاقة سحرية كي تُنير أغوار ظلمة كونية،
يقابلها مشهد ختامي صاعق لأحجار فاتنة تخرج من أرض
غابة، يصفونها بإنها "مليئة
بأجساد الموتى. ومع
إكتمال البدر، يمكن للمرء أن يجد جواهر ثمينة تسطع تحت
ضياءه، لكن لا أحد يملك شجاعة كافية للذهاب إلى هناك"،
قبل ان تعوم بين سوادها. وهي
إشارة بليغة الى ان الوحشية التي تعمّ عالمنا تحتاج
الى نور سماوي يرشد خطاتها. أولهم
الأخرس الذي ستصيده رصاصة الصياد العائد من غيبته،
منتقماً من عاره العائلي.
يملك فيلم "مانترا
راي" لغة
وسمواً سينمائيين غير تقليديين، عبر مزج نظام صوتي
مبتكر مع مؤثرات بصرية شديدة البساطة، تعمقان من
تلميحات درامية وتشكيلية ذات قوّة تحريضية، لعل أكثرها
دهشة مشهد إرتفاع الأحجار المضيئة من قاع غابات أرضنا
الفانية، وصولاً الى سموات الله الدهرية. يدور
نصّ المخرج أرونبينغ في المقام الأول حول فلك الهوية
وإلتباساتها، ذلك ان التشخيص الثنائي المتداخل للبطلين
يجب ان لا يستمر الى الأبد، ولا بد من "قطع" جذره
الفاسد، الذي يتم لاحقا عبر عملية الغدر الجديدة لـ"ثونجتشي". وتوكيداً
على هذا الغموض، أبقى صاحب "نقطة
الإختفاء" و"مأتم
الجزيرة"(كلاهما
أُنجزا في عام2015) غالبية
مشاهد شريطه، خصوصا المقاطع الأخيرة منها، ضمن فترات
معتمة، إنتصرت الى توازن دقيق بين فانتازيا اللون،
وكائناتها المضيئة بفواجعها.