"إسرائيل ستموت قبل ان أموت أنا"، يجاهر الشاب الوسيم
يوآف(الممثل توم ميرسيه) بحسم، موكداً قراره في
التخلّي عن "بلاده" وإرثها ومعتقداتها ولسانها. يرفض
التحدث بالعبرية، لإنه ساع الى "فرنسة" كيانه، مصمماً
على عدم العودة، والعيش والموت في باريس. في المشهد
الإفتتاحي للشريط الثالث للإسرائيلي ناداف لبيد
"مرادفات"، الحائز على جائزة الدُّبّ الذّهب في الدورة
الـ69(7 – 17 شباط/فبراير 2019) لمهرجان برلين
السينمائي، نتابع عبر كاميرا محمولة وعصابية مسيرة رجل
وسط مدينة النور. نتلصص، عبر وجهة نظره، على شوارعها
وناصياتها ودكاكينها ومتنزهاتها ومقاهيها، وأناسها
الحاملين للخبز الباريسي أو كؤوس النبيذ، والإطفال
الضاجين بأمانهم، والعجائز المُحَصّنين بجبروت دولتهم.
لن نرى منه سوى حقيبة ظهر كبيرة. سنفهم لاحقا انه قاصد
لشقة في حي ثريّ. بين جدران غرفها الفارغة، تتوقف
كاميرة شعاي غولدمان عن الحركة، وتصبح جاهزة لوجهة
نظرنا كمشاهدين، نسعى معها لمعرفة تفاصيل "معركته
الخاسرة" بكل الأحوال. يصل يوآف الى العاصمة الفرنسية
بعد إنهائه خدمته العسكرية، ككل إسرائيلي، لكنه يقرر
"الهجرة"، لإن البلاد وصلت الى آخرتها. لكن ما الذي
زرع في رأسه ذلك الظنّ الخبيث انه عملة نادرة في
جمهورية، تعاني تضخماً بإعداد بشر من أمثاله الطامحين
الى رفاهية جاهزة؟. لن يجيب شريط لبيد على هذا
التساؤل، بل يراكم محاججات متعددة فوق محاججة واحدة
وإستفزازية: "أنا يهودي. أتيت الى فرنسا هارباً من
إسرائيل"، وهي تهمة يوجهها الى الجميع، قبل ان يسانده
ابن دينه يارون، وهو شاب رعديد وصدامي، "يهاجم" لاحقا
ركاب عربة مترو باريسية، مردداً النشيد الوطني
الإسرائيلي، وهو قصيدة صهيونية وعنصرية بإمتياز، في
وجوههم، تنديداً بتصاعد ظاهرة معاداة السامية بين
الفرنسيين في الآونة الأخيرة.
في تلك الدار الخالية، يتحقق أول فعل غامض، عندما تسرق
قوّة ما حقيبة وملابس وكيس نوم الشاب البالغ من العمر
21 عاما، وتتركه عارياً تماماً، متجمداً من برد قارص.
ومع إقترابه من ميتته الرمزية، ينقذ شابان فرنسيان الى
النخاع، هما الجاران إبن الذوات والكاتب المبتدىء أميل
(كوينتن دولميير) وعازفة آلة "الأوبوا" كارولين(لويز
شيفولي) الرجل المغترب، ويساهما في "قيامته"
و"إنبعاثه" الجديدين، وإلباسه طلّة مميزة ذات معطف
فاقع اللون وملابس حداثية طوال الفيلم، تتماشى مع
"طليعية" باريس وموضاتها وصرعاتها. ان جسد يواف
المتعجل الى فرنسيته يُغطى بالعطايا من ملابس وهاتف
خلوي ومئات اليوروات ، بيد انها لن تُغير شأناً في
سريرته الذاهبة نحو صدامات عارمة وكاريكاتيرية ضد كل
شيء من حوله، وأولها إصراره على المغادرة، والتوجه الى
شقة وضيعة عند الطرف الأخر من النهر. في هذا المشهد
التأسيسي الذي يجري داخل شقة الشابين، تتدفق الكلمات
الفرنسية ومرادفاتها من فم يوآف، وكأن به يتفاخر بعزمه
على "إختراق " ثقافة جديدة، علينا الإنتظار كي نعرف ان
كانت سترحمه.
ان يوآف/ المسيح الإسرائيلي لن ينكر فضلهما، ويظل
وفياً لهما، لكنه كرجل جاء بهوية نجسة، سيُقدِم لاحقا
على مضاجعة خليلة صديقه التي تخبره برؤيتها الملّتبسة:
"حينما رأيتك على فراشنا، قلت في سريرتي أن قام هذا
الرجل من غيبوبته، سأضاجعه يوماً ما". ان فعله غير
المتجانس، والمتمثل بخيانته لمنقذه، والذي يحدث ضمن
علاقة ثلاثية مسطحة وغير متكافئة عرقياً أو طبقياً،
يفترض ان يقوّض سراطه الذاتي، ويمحق قيمه الداخلية
التي جاء باحثاً عنها هنا، إلا ان هذا لن يؤثر بشكل
حاسم على إرتكابه خطايا متتابعة لاحقة، قاسراً على
نفسه تطبيعاً إجتماعياً هجيناً. فمن ناحية، يُعرِّف
لإميل البلد الذي تخلى عنه بإنه: "دولة شريرة وفاحشة
وجاهلة ومأفونة ومنحطّة وفاسدة وفظّة ومقيتة وبغيضة
ويائسة ومثيرة للإشمئزاز ومكروهة وعديمة الروح وضيقة
الأفق"(وجميع هذه الصفات وضعها المخرج ناداف لبيد على
ملصق فيلمه)، لكننا نصادفه عاملاً ضمن طاقم حماية
القنصلية الإسرائيلية ولكن بلا حديث عبري!، يدفع
بمراجعي التأشيرات الى "عبور" الحدود، صارخاً بجذل
مخبول ان "إسرائيل ترحب بالجميع".
قبل هذا، يكون على البطل الشاب إمتحان رجولته مراراً،
فهو في نهاية المطاف سلعة غريبة ، ما زالت خارج حماية
القوانين الفرنسية/الأوروبية التي لا تُهادن، لنشارك
المخرج لبيد هنا واحداً من أكثر أفكاره راديكالية
وجنوناً وحرية. يعمل يوآف لدى مصور يرغمه على
التعرّي، و"مضاجعة" نفسه، فالرجل المهووس بعمله، يريد
من هذا الجسد المثالي، والقريب من أجساد ألهة الإغريق
وكمالها، ان يوصل مشاهديه الى أقصى درجات شهواتهم.
عندما يهجس ان هناك خللاً في توضيب المشهد، يصرخ في
وجهه ان يقول كلمات فاحشة بالعبرية. حالما يتحقق
الأمر، نكون على بيّنة حاسمة ان يوآف خسر رهانه في
تكريس إنسانيته الجديدة. وهذا ينطبق أيضا على مشاهد
عربدته وتعرّيه الفاضح في المقاصف الباريسية، وتحوله
الى سقط أخلاقي، مثلما هو حال إصراره على رؤية باريس
(وفرنسا ككل) والتعاطي معهما من زاوية نظرة متفلسفة
وفارغة. يقول لإميل وهما واقفان عند احد جسور المدينة
الساحرة: "نهر السين هو إختبار الى ان المدينة تُحددك
شخصيا، وجمال باريس هو رشوة يدفعها الغرباء للبقاء
بعيداَ عن قلبها"، فيما يأخذ عليه منقذه تجاهله لحقيقة
ان النتانة والإبتذال موجودان في كل زوايا المدينة،
ويصر:" لا أظن ان القلب الذي تشير اليه موجودا".
فيلم "مرادفات"(123 د) ذو نزعة تفكيكية وتراكمية لكنه
ليس ضد إسرائيل بالضرورة. فهو لا يقارب أسئلة كبيرة
مثل حقّ وجودها أو طائفيتها أو تزمّتها أو وحشيتها أو
إستعماريتها. هذا ليس هاجس المخرج ناداف لبيد(ولد في
تل أبيب, 1975) الذي كتب نصّه منطلقاً من تجربة شخصية
فاشلة في الـ"تفرنس"، قبل عودته الى مسقط رأسه في
بداية أعوام الـ2000. صحيح ان غالبية المشاهد التي
تتضمن شخصيات إسرائيلية هي سلبية وتحاملية ومدججة
بالعنف والسلاح، إلا ان هاجس صاحب "رجل شرطة"(2011)
و"معلمة الحضانة"(2014) قائم على ان أي "هوية نجسة"
سوف تسيء، على الدوام، التعرّف على الطرق المثالية
لتأقلمها. عليه، فان ما شرع به يوآف عبر ترديده
مرادفات لغته المكتسبة وجملها وغنائيتها المميزة في
وجوه الجميع، كان يُفترض بها ان تؤمن له إختراقاً
ناجعاً لمغامرة حياته الجديدة(أو هويته الجديدة)، بيد
ان تربيته على الجلافات تحوله الى "مصارع" قيم
وأخلاقيات، و"مفجر" شرس لروحه(أو تابوه) الإسرائيلية،
ومثلها تطامنات الأخرين من حوله. كما تكشف عن نظرته
الساذجة لمفهوم الإندماج وحقوقه ومطالبه، والتي تتبدّى
بعنف مكتوم في مشهد ختامي، يصور عناد البطل المجدول في
فتح باب موصود بصدره، من دون ان يفلح في إختراقه. أن
الإستعارة الإيديولوجية الحاسمة هنا، والتي تستلف
عناصرها من حكاية الصراع بين هيكتور أمير طروادة وأخيل
مقاتل الإسبارطيين(أي بين جبان ومقدام)، توكد ان رهان
إبن "الهوية النجسة" مهزوم لا محالة، وهي مخافة ضميرية
إسرائيلية، يذكرها المخرج ناداف لبيد في كتيب شريطه
بقوله ان: "الروح الجماعية ترفض الهزيمة المطلقة
لإسرائيل"، لان:" ليس لنا الحق في الخسارة، ولا حتى
مرّة واحدة، فالهزيمة مرادفة للنهاية".