"ساغا عائلية" سينمائية حميميّة ومجيدة، صُنعت بقدر
باهر من الإلتزام بواقعية شعبية وعقيدتها، متميزة
بسردية متروّية، ومحتشدة بتفاصيل لا تُضاهى، ومثلها
بعد نظر إيديولوجي، يتحامل على كل من: توابع ثورة
ثقافية مقبورة، وما تبقى من تحزّباتها، والسياسة
الظالمة بشأن ولادة طفل واحد، التي حاصرت وماتزال
أعراف عائلات في عموم تلك البلاد الشاسعة، وعممت
شيخوخة سكانية عصيّة على الحل. صانع هذا العمل
الملحمي، هو أحد أقطاب سينما مستقلة صينية، وما يُسمى
بـ"الجيل السادس" فيها، الذي عزز سمعته عبر شريطيه
المحكمين "دراجات بيجين الهوائية"(2001)، حول الحياة
الحضرية في العاصمة، ويوميات الإزاحات الإجتماعية
وتنافساتها في شوارعها وأحيائها، و"فقدان
ذاكرة(أمنيشا) حمراء"(2014) عن الوشايات الحزبية
والنفاق العائلي. مخرج شجاع وموهوب. لم يهادن بخصوص
نظرته الخاصة حول الذاكرة الإنتقائية لتلك الثورة
ومآلاتها اللاحقة، أو ما يوصفها بـ"الرأسمالية ذات
الخصائص الصينية"، وأيضا مواقفه الأثيرة حول الشباب
وصراعاتهم مع التحديث العارم والوحشي لمعالم الحياة،
والتي يشدّد على إنها "غيّرت مصائر الأشخاص، وهدّدت
المرونة الشخصية لدى قطاع واسع من الناس، وأيضا قدرتهم
على المحبة وإحسانهم الداخلي".
"وداعا، بُنيّ"(180 د) عن محنة عائلة، عاصرت أيام ثورة
ماوتسي تونغ الثقافية، وعاشت خطاياها، حيث "كلّ أمر
حزبيّ بالترحيل الى الريف هو وداع للحياة"، كما يقول
البطل متحسَّراً. تخترق فواجع موت متتابعة تاريخ هذه
الأسرة وأيامها، ملقية بظلالها على يوميات زوجين، تمتد
من ثمانينات القرن الماضي وحتى وقتنا الحاضر. نكبة لن
تنال من قوّة آصرتهما وحبهما وإحترامهما المتبادل. أن
حادثة غرق إبنهما اليافع الوحيد هي نائبة يفترض أن
تهزّ قناعتهما بالحياة وجدواها. فما خسراه ليس جسداً
ناحلاً صغيراً بل أملهما بذّرية متواصلة، ذلك ان
القانون الحكومي لن يجيز لهما "جلب" وليد أخر الى هذه
الدنيا مطلقاً، بيد ان ليو يوجن ووانغ لي يون(الممثلان
وانغ جنغتشن ويونغ مي، الحائزان على جائزتي أفضل ممثل
وممثلة في الدورة الـ69(7 – 17 شباط/فبراير 2019)
لمهرجان برلين السينمائي الدولي) لن ينسحقا أمام هول
مصيبتهما، وإنما سيتحايلان كي يتبنّيا طفلاً أخر. حين
يتمّ الأمر، يكون القدر لهما بمرصاد الفضيحة والخسران.
هذا هو الخط الدرامي العام، أما الشريط ككلّ، فهو حياة
مرّتبة حسب المنايا.
يبدأ تشاوشواي نصّه في الوقت الحالي. يعيش زوجان،
بلكنة أهل الشمال، وسط كومونة صغيرة في قرية ساحلية
جنوبية، يملكان فيها محلاً لتصليح المراكب الصغيرة.
قليلا الإختلاط. قليلا الكلام. الرجل حماسي النزعة
ونظامي وحازم، في حين تختال امرأته بجمالها وحرصها على
توازنات بيتهما. ذات يوم، يُعاقِب الأب إبنه
المراهق(16 سنة) بسبب سرقته جهاز "ووكمان" لسماع
الموسيقى من زميله. يختفي الصبي، وتفشل محاولات إقتفاء
أثره. تُقدِم والدته على محاولة إنتحار فاشلة. يهرع
بها الرجل المكلوم الى المستشفى، وأمام جسدها الساكن،
يتذكر فجيعته الأولى: غرق إبنه الأصلي المدعو ليو تشنغ
قبل ستة أعوام(1994). نعرف عبر مقطع "فلاش باك" طويل،
إن ليو تشنغ (الأخر) ليس سوى إبنهما بالتبني. كائن
تعويضهما العاطفي. المعضلة، أن فضح الحادث لن يؤدي سوى
الى عقاب ماحق من الحزب وشياطينه، والتهمة التي لن
تُغتفر تخصّ التمويه على "صفقة ذّرية" ممنوعة. يقرران،
بعد شفاء الأم، العودة الى مسقط رأسهما، إفلاتاً من
فضيحة، مرتهنان الى كفارة ناقصة تُحيط بكل زاوية من
حياتهما، وحزن مرير يغلف دنياهما.
يحافظ تشاوشواي على وحدة الماضي هنا، بإعتبارها لوحة
شامخة لنسيج سوسيو- إقتصادي معقّد "تبين كيف عانى
المواطنون الصينيون العاديون منذ العام 1949، من
تغييرات مبعثرة في المجتمع والأسرة، وطالت كذلك
هوياتهم الشخصية" حسب قوله، ذلك إن: " بناء الأمة
وتنميتها ظلا مرتبطين ارتباطاً وثيقاً بسياسات وطنية
ونظام إجتماعي، لطالما تعرضا الى تذبذب كل منهما
نجاحاً أو فشلاً بشكل كبير". واحدة من دلالات هذا
النظرة القاتمة، ما يحدث للبطلة عندما تختبر فرحة
حملها الثاني، بيد ان النظام يهاجم بشراسة، ويرغمها
على الإجهاض، فتصاب بالعقم، ويُقمع حلمها فسلجياً
بالأمومة الى الأبد. يسرد تشاوشواي هذه العذابات بمنطق
سينمائي شديد التباسط، إذ يعي ان الإفاضة بحكايات نصّه
ستجعله ثقيلاً ومملاً. عليه، فضل التريّث في الإنتقال
الى الحاضر، إلا بعد ان يتحقق فصل تراجيدي قاس تجري
أحداثه في العام 1986، بطلته شابة(تُدعى مولي)، هي
شقيقة جارتهما لي هايان وزوجها شين يانغمينغ وإبنهما
شين هاو. هذا الأخير هو الصديق المقرَّب للإبن الغريق،
وكاتم أسرار الحادث القديم. هي امرأة يافعة لكنها سيئة
الحظ، مطلّقة لكنها حامل. سنها الصغير لم يمنعها من
التمتع بقدر وافر من نكران الذات، وقلب من ذهب. عندما
تكتشف محنة السيدة وانغ لي يون، تحزم أمرها وتعرض
عليها ما هو محرم صينياً: نقل أمومة الوليد الجديد
لها، كونها تفهم معنى حاجتها الى طفل يجبر الصَدْع مع
ماضيها. أمام رفض الزوج ليو يوجن هذه اللفتة الإنسانية
والتضحية بالنفس، يصبح العرض الصادم للشابة عنوانأً
عريضأً "لتصالح الكثير من العائلات الصينية مع ذنوبها
الإجتماعية". وحسب مخرج "هائمون"(2003) فإنه "من خلال
إختيار المرء مواجهة تصرفاته، والتفكير فيها، يوفر
وسائل حقيقية للتحرر من الأخطاء والأذى التي يسببها
للأخرين".
قد يبدو شريط "وداعاً، بُنيّ"، للوهلة الأولى، محصوراً
بين بطليه وعوالمهما ونكبتهما، غير إن المشاهد الفطن
للتفاصيل الكثيرة التي تدور حولهما، يجد إن
دعواتها(التفاصيل) وحكمتها موجهة ضد أنانيات وتكسّب
وقهر. من هنا، فإن الإنتقال الى العام 2011 ، أي بعد
مرور عشرين عاماً، هو إستكمال درامي محبوك لما
سـ"يحدث" ضمن سلسلة الأخطاء. نقابل البطلين وأصدقاءهما
وهم في خواتيم العمر. يعيشون حقبة جديدة ذات طابع
متأورب، فرضت عليهم إزاحة طبائعهم الريفية التقليدية.
تتكشف عناصر ثراء عصرهم الجديد عبر إكسسوارات شقق
حداثية ذات ألوان زاهية وديكورات إستعراضية وأدوات
منزلية مصقولة. أما سلوكهم الجماعي فبقي على حاله. بشر
ذوي حنيات مشتركة وعواطف جياشة، وتشبَّث نادر
بالصداقات وألفتها ونهاياتها. تقرَّر السيدة هايان،
المصابة الآن بالسرطان، توديع صديقيّ عمرها،
فتستدعيهما الى دارتها في المدينة الساحلية التي شهدت
مصابهما المؤلم. ضمن حلقة من تطهَّر جماعي، صاغ
مشهديتها مدير التصوير الكوري الجنوبي القدير كيم
هويونغ ـ سوك(أنجز تحفة مواطنه لي تشنغ ـ دونغ "شعر"
2010) بألوان حارة وإستفزازية، يجمع الإبن شين هاو
شجاعته، مزيحاً عبء السرّ الثقيل، ويخبرهما بملابسات
غرق إبنهما، وقرار الأب ليو يوجن في إخفاء حقيقة: انه
هو (هاو) مَنْ دفع صديقه الراحل نحو حتفه، ذلك اننا لا
يمكن جعل المأساة بنصلين قاتلين. هنا، يتحقق "الوداع
الكلّي" المكوَّن من خليط متضارب من أسى ورأفة وبؤس
وفقدان، أو كما يضعه المخرج تشاوشواي في سياق سياسي
حصيف إن: "الناس الطيبين ضِعاف وغير مهمين حينما
يواجهون مداً وجزراً إجتماعيين هادرين".
شريط "وداعاً، بُنيّ" ليس بكائية مطوّلة، وإنما قول
سينمائي متبصّر لا ينجزه سوى حكاء كبير على شاكلة صاحب
"الأيام"(1993) و"في الحب نثق"(2008)، الذي شحن عمله
بوفرة من عناصر الإحتفاء الميلودرامي بالحياة وسموها
وفتنتها وأزليتها. فقول كلمة "وداعاً" للعمر
وتَنًكّساته أمر سهل، لكن مَنْ يملك شجاعته كي يقول
"وداعاً" لنداماته وهزائمها؟. |