زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

 

"قتل الغزال المقدّس" للإغريقي يورغوس لانثيموس..

شياطين الضواحي

بقلم: زياد الخزاعي

شريط "قتل الغزال المقدّس" للإغريقي يورغوس لانثيموس، الفائز بجائزة (مشاركة مع البريطانية لين رامسي عن نصّها "أنت لم تكن هناك حقا") أفضل سيناريو في الدورة الـ70 (17 ـ 28 ايار 2017) لمهرجان "كانّ" السينمائي، ممسوك درامياً وتأويلياً بقبضة من حديد. لا مكان فيه لمهادنة شخصية، ولا محطّ ضمنها لغفران بشري. تسكن الجريمة في قلب إنساني نراه ينبض بقدّرة رّبانية ذات عظمة، في واحد من أعظم المشاهد الإفتتاحية في تاريخ السينما حيث نتابع حركة عضلة حياة وإيقاعها المدهش بميكانيكية وتائرها المقدسة التي تعلن الحق المجيد في الحياة، بين ضلوع مفتوحة لكائن مسجي على سدّة عمليات جراحية، من دون ان نرى سحنته في تعمد مقصود لإنكارهويته صورياً. هذه النبضات هي علامة سينمائية أولى تحشد الفيلم بدلالات فلسفية للتعريف المزدوج ( والملّتبس على الدوام) للخط الواهي بين منون طبيعي وقتل متعمد.

وككل موت، فهناك تربصّ أزليّ للبشر في النظر اليه بعين الشك، فهذا الأخير يبرّر لهم كمية أحزانهم وغلّ كربهم وعظمة مصائبهم، أما كيف يقاضوه ويحكموا على ظروفه فتلك هي مهمات دورة الإيمان الشخصي المحصورة بين عنوانين: "لا راد له" ونقيضه "الويل لهم!". نصّ لانثيموس الغني يلعب بلؤم سينمائي على هذين الحدّين، فمن ناحية نكتشف ان مريضاً ما قضى تحت مبضع جراح شاب تحوم الشكوك حول ثمالته وقت إجرائه العملية. ومن أخرى، نلتقي بيافع غامض الكيان والدوافع يخترق عالم الجراح المشهور وعائلته، مقتحماً خصوصياته ومستشرفاً على علاقات أفرادها المتضاربة الأهواء والعواطف. نتعرف على ستيفن مورفي(الممثل الإيرلندي كولن فاريل) وهو يزور مدرسة إبنه وإبنته ليقف على أي منهما أكثر نبوغاً، كي يحق له / لها الزكاة بالحياة حينما تزّف ساعة الإنقاذ من الموت. ما يرسم المسار المظلم اللاحق لقدر ستيفن هو كلمة مديرة المدرسة التي تعظّم من شأن ما أنجزته الإبنة "رافي"(كيم مورفي) في ورقتها حول إفجينيا إبنة ملك الأغريق أجامننون، ومأساتها بعد أن قتل غزالاً كان يرعى في غابة الإلهة أرتيميس المقدّسة. وتكفيراً عن ذنب لا يغتفر، تعاقبه الأخيرة بشرط قاس هو التضحية بكبرى بناته وأعزهن على قلبه إفيجينيا.

يقود لانثيموس هذه الثيمة الأسطورية الى مديات حداثية، تتخذ من الضواحي المدينية الأميركية مربعاً سينمائياً يطلق في شوارعها المتطامنة وبيوتها الثرّية والمعزولة، وبين طبقياتها المجتمعية المزهوة بعراقاتها البرجوازية الأوروبية ومهجها الحيادية وقلوبها الشبة الميتة، شياطين متأنقة ذات أنانية ماحقة ووحشية مضمرة لا وصف لدمويتها. انها إباليس يوتوبيا غربية محاصرة بدوافع ذاتية ترى ان واجبها هو الثأرالمُلْزَم. فستيفن مكره على ان يقف متأهباً لتحقيق قصاصه من الموت عند طاولة العمليات، أي تخليص مرضاه من براثنه، فيما نتعرف لاحقا على ثأر اليافع مارتن(باري كوغن) لـ"مقتل" والده على يد  ستيفن من دون ان يتسأل إن كانت "الجناية" الطبية وقعت نتيجة مضاعفات طبيعة أم أن نجدة الأخير ومواهبه الجراحية لم تملك كامل عزومها، وخذلت عناده المشهود له؟ هذا الأب المغدور والمغيّب هو بمثابة غزال مقدّس شبيه يوصل مشاهد فيلم لانثموس (ولد في أثينا عام ، وعمل في الإعلانات والتلفزيون قبل ان ينجز باكورته "صديقي العزيز"(2005) بمشاركة زميله لاكيس لازوبولوس، قبل ان يفوز بجائزة تظاهرة "نظرة ما" عن "ناب"("كانّ" عام2009)، ولاحقا بجائزة أفضل سيناريو عن "ألب"(مهرجان فينيسيا 2011) الى موقعة بغضاء دموية وماحقة. ما كان يروم له الفتى يتحقق عبر مستويين: أولا، أن عالم ستيفن العائلي والمدلهمّ يتهاوى بكتم مريب، فعلاقته الجنسية مع زوجته آنا(الأسترالية نيكول كيدمان) لا تبتعد صورتها عن جثتين تتضاجعان غصباً، يأمرها:" إضطجعي بلا حراك كأنك تحت تخدير عام!"، فيما تتشّبه أبوته عبر صورة بطريرك عائلي يصوّب نظراته الى الجميع برّيبة غير مفهومة.  بيد أن هذه العزلة تتحطم برونق إنساني باهر مع لقائه بمارتن لتتجلى له الأطياف الجديدة لغزال  بشري فتي أخر، وتُشيع في دواخله جذوة حُنُوّ، من دون أن يعيّ ما يقف له عند ناصية العاطفة الكذوب. ثانيا، ان قدرة الفتى على إشاعة سحره الجاذب للجميع لن يغوي لانثموس في شرح سيروراته لمشاهد، وإنما يصّر على جعله صنواً لألهة جبارة تشدّ بقوى غامضة حيوات عاجزة الى حبائل أهوائها وشهواتها ونهمها للقصاص. عليه يصبح مارتن إبناً ثالثاً، يتطبع بطباعهم من دون ان تبدو على سحنته وهج حياة أو عزّة طبقية مكتسبة، فهو لقيط ميثولوجيا أغريقية، منذور الى واجب إدارته لمشهد عائلي ختامي يتعجل إرتكاب المجزرة وهلعها.

العائلة ركيزة أساسية في إشتغالات لانثيموس، إذ يعتبرها "حصالة إجتماعية" تضمّ غرائبية أفرادها ومناوراتهم وحيلهم لتمرير خداعهم وغباواتهم، حينما يعلنون عن فشلهم أمام سطوة ضاغطة لا تسمح لهم بالتشكي أو الإستعطاف أو إستدانة العزم من قوى أخرى. ففي "ناب" يفرض الخوف من عالم خارجي جحيمي على أب وأم أن "يسجنا" إبنهما وشقيقتيه داخل حدود منزل مسيج ومحصّن، على أمل السماح لهم بالمغادرة بعد سقوط أحد أنيابهم ولقاء شقيقهم الثاني القاطن خلف الجدار!، لكن الكبرى تقرر الفرار بعد أن ضاجعها شقيقها ضمن "لعبة غميضة" إقتراحها وفرضها عليهما والديهما!. تعود هذه اللعبة بتوسع طوبوغرافي في "سرطان البحر" مع ورطة البطل ديفيد (فاريل مرّة أخرى) ومشاركته بإنتفاضة فاشلة ضد نظام غريب يجبر البشر على التحول الى حيوانات ان فشلوا في الوقوع بالحب، ويُرغموا على قتل بعضهم خلال مطاردات عشوائية في بريّة مجهولة، حيث أن البطولة الفارغة المعاني لن توصل المرء الخاسر الى بر أمان حقيقي وإنما الى فناء نبوئي ومقنن وحتمي. في حالة ستيفن ، يصبح لزاما عليه إثر إبتزاز مارتن له بأمه (إليشا سلفرستن) وإشارته الجنسية أنها "تميل إليك وتشتهيك"، أن يرتكب "جريمته" الثانية من أجل حصوله على مُسَامَحَة.

لن يستعجل لانثيموس المشهد الختامي الصاعق بل يداور ساغاه العائلية بكم وافر وثقيل من كابوسية سينمائية، يصبح فيها تعنت زوجته آنا فارغاً من معنى الإحتجاج  سعياً لمنع المحتّوم، عندما يعَصَب الجراح عينيه، ويدور حول نفسه ضمن لعبة إختيار قدرية لهدف عشوائي، ويصوّب بندقيته الى صدور ذرّيته سافكاً دمّها المقدّس، وهو تحت تأثير نحس إبن السادسة عشرة وجوعه للعقاب، تحقيقاً للنبأ الإنجيلي: "ويل للأرض لأن، إبليس قد نزل اليك، وبه غضب عظيم، عالماً أن له زماناً قصيراً"(رؤيا 7:12، 9:12).   

سينماتك في ـ  11 يوليو 2017

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2017)