إذا ما كنت ذا ميول يمينيّة ورجعيّة، فعمل الثنائي
الزوجين الأميركيين أماندا ماكبين وجَسي موس سينال
رضاك، لإن مقاربته للفئوية ومناوراتها ولا ذمّتها
السياسية، تُعرض كـ"لعبة" ميول عقدية تقوم بها فئة،
تؤمن إن الأخلاق عائق أمام "خطف السلطة"، وخطر يمنع
محق الأعداء. أما إذا ما كنت مؤمناً بالديمقراطية
وأفعالها وأحقيتها الإجتماعية والطبقية، فهذا نصّ
يخترق مهجتك كونه لا يخون قيم التفاني والإيمان
بالجماعية ومساواتها والتداولية وديناميكيتها، ويُعلي
من حجج فرسانها ومُتَحمِسيها وعنفوانها التجديدي.
شريط "ولاية الفتيان" مُدهش في بنائه السردي، ومقاصده
الإيديولوجية، وإنتقاصاته المسيَّسة، من دون أن يتدخل
الثنائي ماكبين/ موس في سيرورة حكايته وفيوض وقائعها.
فما نتابعه هو تجميع يوميات محصورة بزمن معلوم،
وإحتشاد وقائع حقيقية صورت وقت حدوثها. ما نراه على
مدى الـ109 دقائق، طول الفيلم، هو تعارضات ناريّة بين
مُثُل سامية في مواجهة مكائد فاسدة ووضيعة. أبطالها،
فتيان أميركيون بعمر السابعة عشرة والثامنة عشرة.
يجتمع منهم ألف من تلاميذ المرحلة الثانوية ضمن
برنامج، تأسس عام 1935 في مبنى ولاية تكساس (الكابتول)
بمدينة أوستن، مهمتهم الوحيدة هي محاكاة إنتخاب حكومة
صوريَّة وإدارتها من الألف إلى الياء. تجربة نادرة
تستغرق أسبوعاً كاملاً، تُدعى رسمياً "ولاية الفتيان"
(هناك أخرى مقابلة للفتيات)، تُمتحن فيها الديموقراطية
الأميركية ضمن تمثيلية متقنة التبويبات، تتطابق
عناصرها الإقتراعية مع ما هو جار في الولاية ذاتها.
الخيارات السياسية في هذا التجمُّع، الذي تشرف عليه
منظمة "الفيلق الأميركي" للمحاربين القدامى، فيصل لما
تُنتهج فيه المعارك الإنتخابية وحجَّجها وشعاراتها
ومراوغاتها وإستمالاتها وصفقاتها وغدرها. الهدف تنمية
جيل قادم من القادة السياسيين في البلاد (من بين
المشاركين السابقين الرئيس بيل كلينتون ونائب الرئيس
ديك تشيني والسيناتور كوري بوكر والإذاعي الشهير رَش
ليمبو).
الحاسم، إن شريط ماكبين/ موس غير معني إطلاقاً
بالتواريخ، فهذه منثورة عند مفتتحه، مبقياً هاجسه
الدرامي لصيقاً بصراع فئتين (أو حزبين) هما
"الفيديراليون" (الإتحاديون) و"القوميون". تتصارع أربع
شخصيات من محازبيهم على مناصب كبرى بما فيها منصب
الحاكم. كُلّ منها ترى سلطانها وأَهْلِيّتها وكفاءتها
مرهونة بميزة ما. الفتى الأول هو بن فينستاين، الأكثر
جلافة ومكراً وهوساً برونالد ريغان، الذي يتبجَّح
بالقول: "أعرف جيداً كيف أكون قوَّياً وشرساً عند
الحاجة"، ويلحَّ على إن إعاقته التي تمنعه من الإنخراط
في جبهات القتال، لن تقف عائقاً من أجل خدمة وطنه
موظفاً مدنياً في وزارة الدفاع أو وكالة المخابرات
المركزية أو مكتب التحقيقات الفيديرالية. إنه ماكنة
بذراع واحدة، حيث الأخرى معطوبة، فيما يسير على طرفين
إصطناعيين لإصابته بالسحايا وهو في الثالثة من عمره.
بن هو عقلية غارقة بيمينيتها. يدير حملته الإنتخابية
كفيديرالي، مسنوداً الى شخصية صدامية ونفعية ومراوغة
شديدة البأس. مقابله، يقف إبن شيكاغو الأفرو أميركي
(القومي) رينيه أوتيرو. يافع وسيم ومفوَّه وذو عقل
مُنير، يعترف: " لم أشهد من قبل قط هذا العدد الهائل
من الأشخاص البيض". هاجسه، توظيف الديموقراطية ككيان
ديناميكي، والإيمان بنظام مدني، غافلاً عن شراسة
منافسيه ودسائس رفاقه. يتزعَّم بن ورينيه حزبيهما، بيد
أن عليهما الترويج لناخبين محتملين لمنصب الحاكم. هنا،
تدخل الشخصية الإتحادية الثالثة الأكثر حضوراً وهو
اليافع ستيفن غارزا، إبن المهاجرين المكسيكيين الذي
يتفاخر بـ: "أنا رجل عصامي". فتى حكيم يحسب خطواته،
ويتأن بردود أفعاله، معجب بشخصية نابليون بونابرت لإنه
"لديه القدرة على الإلهام والطموح والثّقة بالنفس".
نموذج للجَلَادَة والمقاومة، يقول بعزم: "قضيتي الأهم
هي الحرية الفردية"، وهي شعاره للمركز الكبير. في
مواجهته، يقف إبن المهاجرين الإيطاليين أدي الذي يجد
في فينستاين ملهماً في التآمر وخطف الفوز. أما الشخص
الرابع، فهو روبرت ماكدوغال (الفيديرالي)، الوجه
الناصع للطبقة المتوسطة الأميركية التي تؤمن إن
وجاهتها الإجتماعية، إنما هي نتاج لليبرالية متحوَّلة،
بمعنى إنها لا تخشى تغيير مواقفها حسب مصالحها. يعترف:
"أدركت، إنك أحيانا لا تستطيع الفوز نتيجة ما تؤمن به
في قلبك. لا يمكنك الفوز إعتماداً على رأي الأقلية في
نظام ديموقراطي". يخسر روبرت ترشيحه لإنه "أمارس هذا
الأمر كلعبة"، كدليل على إفتقاره لقناعة شخصية حاسمة.
نتابع المداولات والتنافسات والتحريضات من أجل إختيار
"رجالات التغيير الفوري" حسب فينستاين، الذي يقود ـ
كما هو متوقع من شخص يصرّ على إنه "مروج بارع"ـ خطط
تشهير وإشاعة مزاعم رخيصة عبر وسائل التواصل الإجتماعي
ضد الحزب المناؤى وقيادته، خصوصا غارزا ووجوب "تقديمه
كمناهض للسلاح"، كونه نظم "مسيرة من أجل حياتنا"، إثر
الهجوم المسلح والدموي الذي شهدته ثانوية باركلاند في
وقت سابق. في هذا الفصل الهائل التأثير، نقف عند
عقيدتين تقليديتين. ترى الأولى إن إستخدام هجمات شخصية
وتعزيز قضايا خلافية هي أمر دامغ لإشاعة الإنقسام
وتدمير المنافس (وهو تكتيك حملة دونالد ترامب الرئاسية
قبل ثلاثة أعوام)، فيما تستلف الأخرى رؤية جورج واشنطن
في رسالة الوداع عام 1796 التي حذرت بإن النظام الحزبي
هو موت "أميركا"، لإن "الأحزاب السياسية قابلة لأن
تصبح الآت فاعلة، يتمكن من خلالها رجال ماكرون وطموحون
وعديمو المبادىء من تقويض سلطة الشعب، والإستيلاء على
مقاليد الحكم لمنافعهم". هؤلاء الدهاة هم مَنْ سيكتسح
صناديق الإقتراع في "ولاية الفتيان"2018، ويثبتوا ما
صرح به فينستاين بزَّهو صادم، وهو مُمدَّد على أريكة
ملوكية إن: "الحيل والتهم القذرة كانت مؤثرة. هذه هي
السياسة".
إن مُشاهد فيلم "ولاية الفتيان"، الحائز على الجائزة
الكبرى للجنة تحكيم الفيلم الوثائقي في مهرجان صاندانس
السينمائي 2020، والمتوفر على منصة "أبل +"، يتابع
يوميات هؤلاء الصبية وهِمَّاتهم عبر نظام تصويري
متداخل وحركي، قام بتنفيذه ثمانية أشخاص بواسطة
كاميرات محمولة، "وثقوا" أكبر كمية من التجمعات
والإحتفالات والأحاديث الجماعية والنقاشات التشريعية
والإعترافات الشخصية والإجتماعات الصاخبة والتندرات
والمزاحمات التي تتفجَّر على الشاشة عبر مقاطع حيوية
وقصيرة، لكنها مفعمة بوهج عاطفي مدهش. هؤلاء هم قادة
المستقبل وليسوا ولاة أمر عابرين. هؤلاء هم مسيرون
قادمون لنظام دولة عميقة تمرَّنهم على مبادىء قانون
ومؤسسات ودستور وخطط إستراتيجية. إن المحاكاة التي
يمرون بها ويمارسونها بشكل واقعي، هي خطوة إستباقية
وماكرة وتعليمية وإنتقائية، ترفد السيل الحكومي
والحزبي في مؤسسات القوَّة العظمى الأكبر عالمياً،
بذُّرّيّة صالحة للحكم ومداولة المسؤوليات. من هنا،
فإن الإقناع الفَطِن الذي بني الثنائي ماكبين/ موس
عليه عملهما، الذي تواجد في كل أمكنة "الكابتول"
بأوستن، يعود في المقام الأول الى حياديتهما وغياب
غرضهما الإيديولوجيّ المسبَّق لإستمالة مشاهد من طينة
معينة. ينظر "ولاية الفتيان" الى هذا التجمُّع السنوي
بإعتباره رحماً إصطناعياً ذا هندسة تنظيمية شديدة
الإحكام، مضمونة مالياً، ومدعومة من قبل قوى حزبية
وعسكرية وقيادية نافذة، لإنتاج ساسة غد، يعصف بهم
الطموح الجامح والتعصَّب القومي ونَّعرة التفوَّق.
بعضهم يسوق الأمة لاحقا الى حروب عبثية (حالة تشيني)،
وأخر يدفعه الملل الرئاسي الى علاقات جنسية محرمة
(حالة كلينتون)، وثالث يصنع مجداً بشرياً خالداً (حالة
نيل آرمسترونغ)، لكن ما هو جازم إن هذه النُطَف
السياسية لا بد لها أن تُنافِس وتُغيّر وتؤسس عقليات
إنقلابية، تتسيَّد في يوم ما، وفي حقبة ما، وفي عهد
ما. تجد هذه النُطَف نموذجها الباهر في خطاب غارزا
أمام 7500 شخص، تجمعوا في مؤتمر للحزب الديموقراطي
بتكساس، وشعاره الجديد الذي أطلقه، تحت تصفيق مجنون،
بصرامة الخطيب المِلسان: "نحن أميركا، وأميركا هي
نحن". |