أُحجية سينمائية بإمتياز، أنجزها المخرج السينمائي
والمؤلف البريطاني الأميركي كريستوفر نولان بلؤم
إيديولوجي بحت. "تنت" (150 د)، عنوان يقرأ من الجهتين،
لا يلمح الى شيء محدد. "كود" لفظي لمنظمة إرهابية
سرّيَّة. نشاطها الكابوسي معني بأزمنة تُقاس إفتراضياً
بإقدار البشرية، وبقاء حيواتها على هذا الكوكب البائس.
كُلّ ما تشتهيه نفس مشاهد نولان متوافر بكرم لا يوصف.
مطاردات، حرائق، تفجيرات، معارك لا تحصى، أكروباتيك
راقص لا يُمل، شخصيات غامضة كما الموت الذي يطاردها،
وأخرى منيرة الى درجة تعي أبصار مَنْ يواجه شاشة نسخة
الـ70 ميلمتراً أو "الأيماكس"، وهما أفضل وسيلتين
بصريتين لتثمين براعات صاحب "تتبع" (1998).
إشتغال نولان (ولد في لندن 1970) مدهش لكنه غير مقنع.
السبب: غزارة تنَّميط طالت شخصياته جمعاء، إضافة الى
روتين فاقع من "جنر" (نوع) الفيلم الحركي/ التآمري.
الشخصية الرئيسة المسماة بـ"البطل" (الممثل الأميركي
جون ديفيد واشنطن الذي عرف شهرة عبر شريط مواطنه سبايك
لي "رجل كوكلوكس كلان الزنجي")، ذات بعد واحد ومملّ
ومُفْتَعَل. رجل نّكَل ٌبمهمات خارقة، محظوظ، وغير
هيّاب للمخاطر. يمكن إعتباره تكليفاً إلهياً لإنقاذ
العالم من نَبْتات شرَّ تروم الى تدمير الغرب
وديموقراطياته ورفاهياته وتسبيقاته الحضارية. هو،
سَّحناء متعددة لعملاء وكالات إستخباراتية مؤتلفة في
وجه رجل أسود وسيم. يمكن أن ترى فيه (أو تُماهيهه مع)
بطولات جيمس بوند، أو جيسن بورن، أو جاك ريتشر، أو
هاري هارت (في "كينغزمان" (2014) لماثيو فوغن)، أو
براين ميلز (في "تيكن" (2008) لبيار مورل)، أو جاك
راين (في "المُجنِد المخفي" (2014) لكينيث براناه)، أو
نابليون سولو (في "رجل من يو. أن. سي. أل. أي" (2015)
لغي ريتشي)، أو روبرت ماكول (في "المُعادل" (2014)
لإنتوان فوكوا) وغيرهم، من دون أن يتجسَّد في أيّ واحد
منهم. بطل نولان ليس نسخة بل إستنساخ بائر، غير
ديناميكي، لذا يجد المتفرج الفطن إن شريط "تنت" مصنوع
برُمَّته لصالح ملاحقات نابضة تغطي على تهافت هذه
الشخصية، بل والأغرب، إنه ينظم عملياته في مشاهد
مكتظّه بحشود من ممثلين ثانويين، يتحركون في الإتجاهات
كلها، مضفين إنطباعاً غادراً بان "البطل" مُكوَّن من
طبقات درامية مخفيّة لا نستطيع الإمساك بإشاراتها، ما
عدا ترديده كلمة تحذيرية غامضة:"ربما سأفاجئك!" من دون
أن يُباغتنا بواحدة تشفّي الغليل.
نظيره البريطاني نيل (روبرت باتنسن في إداء محكم) أكثر
رداءة منه، من باب البطولات الفارغة. شخصية ثعبانية لا
تعرف شفقة أو وفاء أو أمانة. ماكنة تقودها الأوامر
والشغف بالكمال، الذي يتمثَّل بكل طاقته الإستعراضية
في المشهد الختامي. نيل من عجينة درامية لم تُطبخ على
نار هادئة بل تعرضت الى نيران خاطفة شوهت معاني وطنيته
المسيَّحة لبدلاته الإنيقة، ولاحقا بذلته العسكرية
الجديرة بعلامة أرماني. مثلهم، المرأة الوحيدة بين
الذكور كاثرين بارتن (الإسترالية إليزابيث ديبيكي)،
نراها كقطعة تكميلية من دون فعل حقيقي أو مقنع، رغم
إنها الوحيدة التي تمتلك مشاعر إنسانية. أم مرتهنة الى
زوج أجنبي عصابي ومدمر وبَغْي، يهددها بوليدها إن تخلت
عنه، "لم يتبق لي سوى الضراعة"، كما تُخبر العميل عند
لقائهما الأول. فجأة، تجد نفسها وسط لعبة زمنية
معكوسة، لتصبح أضحية عمليات مضنية للسيطرة على قنبلة
خوارزمية فتَّاكة، تتسابق عليها مؤسسات أمنية غربية
ورجل مخبول. هذا الأخير ويدعى أندريه ساتور، أولغارشي
أنغلو ـ روسي باذخ المَيْسَرَة والدموية، صنع ثروته من
صفقات الغاز، وقرر إبادة أخباث الغرب من يخته الباذخ.
لئن كان "البطل" تَّورية لإقدام مهني، فإن ساتور هو
صورة ثابتة لوغد. أما نيل فهو زنيم لا يرتضي هزيمة، في
حين تبقى كات أقرب الى جملة غير مكتملة للإستذلال.
***
لكن مهلا!،هذه ليست قضية "تنت" البتَّة، أيّ إنه غير
مكترث الى إقناع مشاهده بصوابية هذه الشخصيات، أو إن
هناك مغزى ما خلف تجميعها على هذا النحو. إنها وسائل
بشرية أستهدفت ملء المشهديات فقط، في حين كانت جهود
نولان ومدير تصويره السويسري الموهوب هويته فان هويتمه
والمونتيرة جينيفر ليم والمصمم ناثان كرولي، تقصّدت
إنجاز أُلْعُوبَة بصرية تهويمية ذات هيكل سردي غير
تقليدي، هدفها وضع المشاهد رهينة نُّعاس سينمائي يقوم
على الظنّ بزمن يسير معكوساً، ولا يلتقي إلا عند برهة
تبصّرية بمستقبل لن يحدث. زمن متضاد، هو الناموس
الدرامي في عمل نولان، من دونه لا يساوي الفيلم الـ200
مليون دولار أميركي كلفة إنتاجه. فكرة التزامن
وتداخلاته مكرورة في سينماه، منذ نصّه المميَّز
"ميمينتو" (2000)، وتعسَّرت أكثر لاحقا في "إنسبشن"
(فاتحة، 2010)، ووصلت ذروتها في "أنترستيلر" (عبر
النجوم، 2014)، أما ما ميزها في جديده، إعتمد على
إستيحاء ديناميكي شديد التعقيد للرياضيات وإختراقاتها
لمفهوم الوقت، ساعياً في آن الى التخفف من وطأة
مغالاتها الفلسفية، عبر حكاية عميل لوكالة المخابرات
المركزية (سي آي أي) يُكلف الوصول الى القنبلة لإن "من
واجبك دعم المصالح الوطنية"، كما يُخبره أحد الوسطاء
الحكوميين. تمهيداً لمعلوماتنا، يخترع نولان شخصية
خبيرة صارمة السحنة، ولا تُهادن في إخبار الشاب إنها
مكلَّفة "تجهيزك للذهاب الى الجحيم"، مستعرضة رصاصة
"صنعها أحدهم في المستقبل، وتعود الينا عبر الزمن".
المشكلة في هذا المشهد التعريفي إنه يقدم "البطل"
بسحنة متفلسف وليس باحث عن معلومة، يقول حين يختبر
إرتداد رصاصة بالمعكوس إن "السبب يحدث قبل النتيجة"،
لتردَّ عليه بحزم: "لا، هذه رؤيتنا للزمن"، فيقع
المشاهد في حيرة أولية، أهذا عميل مموَّه بمسوح يسوع
جديد، مأمور من آلهة هوليوود لردع حدوث "هولوكوست
نووي"؟، حسب كلماته.
***
معنى عنوان نولان هو "عقيدة"، يسبغها المخرج على مفاصل
حكايته. تارة، هي ميثاق بين "البطل" وقدره الذي يوصف
كالتالي: "إخترت الموت، لا التخلي عن رفاقك". أخرى، هي
تعهّد بين غريمين، أحدهما "لا يعرف الفرق بين الفشل
والخيانة"، ومقابله الذي يؤمن بخلاص فردي "لإن لا
أصدقاء لدينا"، بعد أن توصل اليه خلال تعرضه للغدر،
ضمن تمثيلية قياس لولائه وشكيمته في مقطع الحفل
الموسيقي الدموي عند بداية الفيلم. ثالثة، هي مسوغ نذل
لضمان أمان الدولة الديمقراطية حتى في إستبدادها،
بمعنى إن كثرة المخاطر تبيح تجبَّر سلطة تنزع عنها
رداء الليبرالية لترتدي أخر توتاليتاري عسكراتي فاشي
صرف. العنوان، مأخوذ من رقيم مربع الشكل، أُكتشف في
خرائب مدينة بومبي الإيطالية، يحمل خمس كلمات من خمسة
حروف متناظرة (ساتور، أريبو، تنت، أوبرا، روتاس)، تقرأ
من كل الجهات، وتظهر كما هي. أُستخدمت في الفيلم من
دون معانيها الأصلية. الكلمة الأولى، لقب الشخصية
الروسية. الثانية، أسم مزيف لوحة الرسام الإسباني غويا
التي أوقع بكاثرين في ورطة غشها مع زوجها. الثالثة،
عنوان الشريط. الرابعة، مكان الهجوم الإرهابي الأول
الذي يجري داخل أوبرا كييف بأوكرانيا. الأخيرة، أسم
شركة أمن مطار أوسلو بفنلندا الذي يشهد غالبية فصول
المؤامرة. المكان هو وكر لتبييض الأموال، وتهريب
الممنوعات، وحفظ المقتنيات التي لا تقدر بثمن، منها
تلك اللوحة المزيفة التي يراهن عليها "البطل" في
إبتزاز السيدة، من أجل توصيله الى عرين زوجها ساتور.
في أروقة هذا الحظيرة المحصَّنة، تحدث المواجهة الأولى
بين الثنائي البطل/ نيل من جهة، وجنديين مقنعين جاءا
من المستقبل، سرعان ما "يمتصهما" الزمن، ويفلتا
باللوحة ـ الغنيمة. ركَّب نولان المقابضات ضمن هندسة
دقيقة ومحسوبة، عبر تصوير حركي مضاد، أحدهما يسير الى
الأمام وأخر الى الخلف، هيّأت للمشاهد المصدوم ظنّاً
سحرياً بسوريالية وضعيات قتالية وخياليتها ولا
معقوليتها. لاحقا، يكرَّر نولان وصفته البصرية بـ"علم
المعكوسات"، مستخدماً هذه المرّة سيارات تطارد بعضها
الأخر بالعكس، وفي داخلها الشخصيات الأربع للإستحواذ
على جزء من القنبلة الخوارزمية، قبل أن يقسَّم شاشته
الى نصفين، أزرق (وقت آني) وأحمر (مستقبلي)، يفصل
بينهما حاجز زجاجي، يراقب "البطل" من خلاله ما يحدث
لكاثرين المصابة، مع هدايات غير مألوفة من الشاب نيل
حول "الوعي والواقع المتعدد"!. أما التفَّجر الأكثر
بذاخة لتقنية الزمن المعكوس، فتجري عند ساحة وغى مليئة
بجنود يندفعون الى الوراء، يواجههم نظراء يسيرون في
إتجاه مضاد. منهم من يموت اليوم، لكنه يعود من مستقبله
عبر ثقب زمني لا نراه. هذه متواليات رياضية لا نهاية
لها. تنتظر إنقلاباً فريداً يحدث في "إدراك" البطل، أو
قيام نبوءة ما تقوده الى إجارة البشرية من "عمل قذر"
يسعى اليه غرباء بلا وازع. من هنا تتعزز إيديولوجية
شريط "تنت" الموغلة بيمينيتها وفاشيتها، ذلك إن
العسكري ورجل الأمن هما "فرسان آرمادا" خالدون يتنقلون
بسفن زمنية (صور الفيلم في سبعة دول)، يجعلون من
حكومات ومدن بؤراً للإفساد والتوحش، فمدينة الرياض في
المملكة العربية السعودية، على سبيل المثال، تُذكر
كغطاء لإكاذيب، فيما تَرِد إيران كدولة مارقة، تجتهد
في الحصول على البولتونيوم، أما الهند فهي حِصن السيدة
بريا (الممثلة المخضرمة ديمبلي كاباديا) تاجرة السلاح
الخؤوونة، والمالكة لخط إتصال مع عصابات ساتور، التي
يقتلها "البطل" في المشهد النهائي، معلناً "تمت
المهمة". في حين تبقى الجنات الأوروبية ملاذاَ لقوّة
عمل إستخباراتي لا يكف عن حيله ومناوراته وخططه
و"نظافة" عملياته، حيث لن نشاهد دماء سوى تلك التي
ينزفها "البطل"، عبر جرح تسببت به "نفسه" العائدة من
مستقبله، خلال مواجهتهما المتكررة في مطار أوسلو، الذي
تغطي ألواح الذهب الخالص مدرجاته!.
***
يتفاخر نولان بعَسْكَرة نصّه، لإن مواجهة الإرهاب
وغزاته تتطلب مُثَامَنَات الإستبداد، التي تتضح بشكل
حقود في مشهد "تقطيع" القنبلة الخوازمية، في نهاية
المطاف، وتوزيعها بين رجالات الإستخبارات، إثر معارك
طاحنة ضد كهنة موت وفناء. في هذه الصولات، يكتشف
"البطل" شخصية منقذه من رصاصة غدر في مشهد الأوبرا،
عبر خيط أحمر يتدلى من حقيبة ظهره، إنه البريطاني نيل
المتبجّح بإن "سياستنا هي المفاجأة". إن الشابين
يحققان مساومتهما كطرفين متعادلين ببسالاتهما
ومَنَعَتهما ومُكْنَتهما. أما "أهل الظلم" فحقهم
المَحق، إذ لا مجال لمُثَامَنَات تعزز حشرهم البشرية
بشرورهم، المتمثلة بجملة الروسي ساتور:"لقد عقدت
إتفاقاً مع الشيطان"، من أجل أن "أخلق عالماً جديداً
بلا أجيال مقبلة"، بيد أن حلمه القادِح يُدمَّر برصاصة
توجهها كاثرين الى صدره. إن المستقبل الذي يختتم به
نولان شريطه مجيَّر بأكمله الى جيوش غربية عالية
الجاهزية والهمّة والهدف، تتقاتل لصالح نعيم حالي، لا
مكان فيه للصدفة أو لمَنْ أَجحف. فالإيمان، حسب معادلة
"تنت"، يساوي الواقع، أيّ إن دورة أزماننا إمتلكت
بدايتها ذات مرّة، بيد إننا لا نعرف كم عدد نهاياتها،
أما أوقاتها فهي رهن لـ"عقيدة غيب". |