تقديم
بعد هذا العرض النقدي لجميع أفلام المخرج عاطف الطيب، بقى أن نقوم بدراسة
تجربة هذا المخرج السينمائية، والبحث عن رؤية إبداعية فنية جسدها في
أفلامه، نناقش من خلالها ما قدمه هذا المخرج من أفكار ومضامين، كانت ـ
بالطبع ـ سبباً لشهرته كمخرج، وبروزه كفارس مغامر من فرسان السينما المصرية
الجديدة. ولكي نفعل ذلك قمنا بعمل جدول (ببلوغرافيا) لمجمل أفلامه
السينمائية، يشمل أهم عناصر العمل السينمائي (الموضوع، السيناريو والحوار،
زمن الحدث، مكان الحدث، الإخراج والعناصر الفنية والتقنية الأخرى).
واعتمدنا كثيراً على هذا الجدول في دراسة كل عنصر على حدة، وخرجنا بتصورات
صارت أساساً لهذه
الدراسة.
أولا
: الموضوع
ينحصر اهتمام عاطف الطيب، في اختياره لمواضيع أفلامه، في ثنائية واحدة
محددة، ألا وهي ثنائية: القهر/التمرد.. قهر السلطة والقانون والمجتمع/
التمرد والرفض من الفرد تجاه السلطة والمجتمع. فقد كان عاطف الطيب حريصاً
على أن يقدم أفلاماً تسعى دائماً إلى الصدق الفني وتتطرق إلى مشاكل الواقع،
وتهتم بالمواضيع التي تعبر عن الإنسان البسيط.. الإنسان المحاط بظروف
اجتماعية وسياسية واقتصادية معيشية صعبة غير آمنة. وما أراده عاطف الطيب،
قد وجده عند كتاب السيناريو الأكثر بروزاً في الوسط السينمائي (وحيد حامد =
5 أفلام ـ بشير الديك = 4 أفلام ـ أسامة أنور عكاشة = فيلمين ـ مصطفى محرم
= 3 أفلام)، وهم كتاب اشتركوا مع عاطف الطيب في طرح نفس الهموم والمشاكل
التي تهم المواطن البسيط وتعالج قضاياه الحياتية اليومية.
وإذا استعرضنا أمثلة من أفلام الطيب، تجسد هذه الثنائية، فسنجد مثلاً، بأن
فيلم (البريء) يجسد ذلك القهر الذي تمارسه السلطة من خلال استغلالها لجهل
المجند العسكري في تنفيذ الأوامر. هناك أيضاً فيلم (الزمار) حيث الحجر على
الآراء والأفكار من قبل السلطة. أما فيلمي (التخشيبة) و(ملف في الآداب)
فهما إدانة واضحة للقوانين والإجراءات الحكومية الروتينية، والتي تتسبب في
كثير من الأحيان في فقد الإنسان لآدميته. هذا من ناحية قهر السلطة
والقانون، أما بالنسبة للقهر الاجتماعي، فهو بارز بشكل واضح في أغلب أفلام
الطيب. فمثلاً، فيلم (سواق الأتوبيس) يشكل علامة بارزة في رفضه لذلك
التغيير المفاجئ في العلاقات الاجتماعية والأخلاقية في عصر الانفتاح. هناك
أيضاً فيلم (الحب فوق هضبة الهرم) الذي ناقش مشاكل الشباب المصري في
الثمانينات، وبالتحديد شباب الطبقة المتوسطة، الذين يعيشون أزمات هذا
العصر.. أزمات مثل السكن والعادات والتقاليد. كما يناقش موضوعاً حساساً
جداً يعاني منه الشباب العربي بشكل خاص، ألا وهو موضوع الجنس، وجميعها
مسببات للقهر الاجتماعي، الذي يعرقل كافة الطموحات المستقبلية للشباب. أضف
إلى ذلك الفساد الاجتماعي في فيلم (ضربة معلم)، والممارسات الخاطئة في
المجتمع في فيلم (الدنيا على جناح يمامة) يعدان من عناصر القهر الاجتماعي
الذي نبحث فيه. أما فيلم (الهروب) فهو النموذج الأمثل لنقد الكثير من
الممارسات الخاطئة التي يعيشها الواقع المصري والعربي بشكل عام. فهو يتطرق
ـ بالتحديد ـ لتلك الجراح الغائرة في حياتنا - من عنف وتطرف وإرهاب وغيرها،
مؤكداً بأن بعض هذه الممارسات قد ساهم الإعلام وبعض أجهزة الدولة في
تكريسها وانتشارها.
في المقابل يبرز الجزء الآخر من الثنائية (الرفض والتمرد) في نهايات أفلام
الطيب، باعتبارها النتيجة الحتمية للقهر، ويتبين ذلك في المشهد الأخير
لفيلم (سواق الأتوبيس) الذي يشكل تحدياً لتلك التغيرات الاجتماعية
والأخلاقية، والتأكيد على مواجهتها. وكذلك في فيلم (الحب فوق هضبة الهرم)
عندما أصر بطلا الفيلم على محاكمتهما، ليتمكنا من فضح كل تلك الصعوبات
والإحباطات التي يتعرض لها الشباب. وهناك أيضاً المتهمات في فيلم (ملف في
الآداب) اللاتي لا يكتفين بالبراءة، ويطلبن من المحكمة توفير الأمان
الاجتماعي العادل، حيث أن البراءة القانونية شيء، وصفاء السمعة الاجتماعية
واستمرار اتهام المجتمع ـ الذي سيظل سيفاً مسلطاً على رقاب الأبرياء إلى
مالا نهاية ـ شيء آخر. وأفلام (التخشيبة) و(الزمار) و(البريء) و(كتيبة
الإعدام) و(الهروب)، جميعها أفلام تؤكد على رفض الظلم السياسي والاجتماعي،
وإن كان هذا التأكيد يأتي بشكل فردي ومباشر أحياناً.. فردي في أفلام مثل
(سواق الأتوبيس ـ الحب فوق هضبة الهرم ـ الهروب ـ ملف في الآداب ـ الزمار).
ومباشر في أفلام مثل (التخشيبة ـ البريء ـ البدرون ـ ضربة معلم ـ كتيبة
الإعدام ـ ضد الحكومة).
ثانيا :
السيناريو والحوار
هناك تساؤل تستحدثه تلك الثنائية المعروضة في فكر عاطف الطيب، وهو: هل
استطاعت المعالجة الدرامية (السيناريو والحوار) عند عاطف الطيب أن تجسد
الموضوع المطروح بشكل جيد؟ فالمتتبع للببلوغرافيا الإحصائية لأفلام الطيب،
يرى بأن هناك ضعفاً عاماً يسود أفلام الطيب بالنسبة لمعالجة تلك الثنائية
التي سبق الحديث عنها، فيما لو استثنينا أفلام (سواق الأتوبيس) و(الهروب)
و(إنذار بالطاعة). فسنرى بأن السيناريو في فيلم (التخشيبة) ذو إيقاع سريع
موحٍ ومحفز، تشوبه بعض المفارقات الدرامية في نصفه الأول. صحيح بأنه نجح في
الاحتفاظ بعنصر التشويق والغموض والتوتر في بناء الأحداث.. إلا أنه في
النصف الآخر يتحول إلى سيناريو ضعيف تقليدي، خاصة بعد أن ينكشف الغموض
وينقلب الفيلم إلى لغز بوليسي انتقامي من غير مبررات منطقية. وفي فيلم
(الحب فوق هضبة الهرم) يقدم السيناريو شخصيات واقعية جداً في المجتمع، لكنه
لم يقدم جديداً في المعالجة الدرامية وبدا تقليدياً في تركيبته وكتابته
للسيناريو، وكان اعتماد السيناريو بشكل كبير على الحوار في توصيل أفكار
الفيلم، نقصد الحوار الزائد في كثير من المشاهد، والواقعي والجميل في بعضه.
أما في فيلم (ملف في الآداب) فنجد سيناريو يتصف بأنه جيد جريء واستفزازي،
إلا أنه كان متسرعاً ومتناسياً إيجاد مبررات لتصرفات شخصياته، حيث لم يتوقف
بالتأمل والتحليل للمراحل التي مرت بها بعض الشخصيات. وقد كان واضحاً بأن
السيناريو يتعجل الوصول إلى النتيجة المثيرة للمتفرج. حيث يقفز بنا الفيلم
إلى مشهد المحاكمة، دون المرور على الآثار الجانبية الهامة التي لحقت
بعائلات المتهمات في قضية الدعارة. كذلك في فيلم (البريء) حيث كان
السيناريو تقليدياً في معالجته لموضوع هام وخطير، وضاع بين الميلودراما
المؤثرة المصحوبة بالعنف، وبين أطروحات الفن الملتزم، ولهذا جاء السيناريو
ركيكاً في كتابته الدرامية، معتمداً في نجاحه على فكرته الجريئة. كما أن
السيناريو قد ركز في بنائه للشخصيات على الشخصية المحورية فقط، والتي جاءت
صادقة ومرسومة بعناية، وبالتالي تناسى الاهتمام بالشخصيات الأخرى. وفي فيلم
(ضربة معلم) فإن السيناريو لم يوفق كثيراً بالدخول في أعماق شخصياته ودراسة
انفعالاتها وتحليلها نفسياً واجتماعيا، لذلك بدت ردود أفعال بعض الشخصيات
وتصرفاتها ساذجة وغير مقنعة. ولولا عنصري التشويق والحركة، الذي حاول
الفيلم الاحتفاظ بهما حتى النهاية، لسقط الفيلم في الكثير من السطحية،
وتبين بشكل جلي ذلك الضعف في شخصيات الفيلم. أما السيناريو في فيلم (كتيبة
الإعدام) فقد اعتمد على حكاية تقليدية قديمة جداً، ألا وهي حكاية القتل
والانتقام. وبالرغم من إن السيناريو قد أضاف بعداً سياسياً للفيلم، بعد
تقديمه لبعض الحيثيات والإسقاطات المعاصرة، ليتحول السيناريو إلى قضية شرف
ودفاع عن الوطن، وهو أن مرحلة الانفتاح الاقتصادي هي خيانة لحرب أكتوبر،
إلا أن السيناريو قد أخفق تماماً في التعبير عن هذا درامياً، بل إنه لم
يقنعنا ولم يقدم أية مبررات منطقية لتصوره هذا، إضافة إلى أن السيناريو
أساساً قد اعتمد على فكرة غير منطقية مختلقة وبني عليها مجمل أحداثه.
أما بالنسبة لسيناريو الأفلام الثلاثة (سواق الأتوبيس ـ الهروب ـ إنذار
بالطاعة)، فقد نجوا من ذلك الضعف والتذبذب في المستوى. ففي فيلم (سواق
الأتوبيس) نحن أمام سيناريو خلاق وبسيط، بعيد عن المباشرة، يتحاشى جاهداً
تقديم مواعظ وخطب رنانة ومباشرة عن الشرف والأمانة والوطنية. هذا إضافة إلى
الحوار الذكي واللماح والمركز، والذي ابتعد عن الثرثرة الكلامية. كذلك في
فيلم (الهروب) حيث نجد سيناريو أكثر ما يمكن أن يوصف به كونه جيداً وواعياً
في الرؤية والمعالجة. الشخصيات فيه مدروسة بعناية، والأحداث منطقية
ومتماشية مع منطق الشخصيات. حيث كان من الممكن أن تسوده حوادث الانتقام كما
في الكثير من الأفلام المشابهة، إلا أننا أمام سيناريو يحطم هذا القيد ـ
بعد حادثتين فقط ـ ويتطرق إلى عدة قضايا مهمة تضع المتفرج في مواجهة مناطق
جديدة وبشكل جريء في الطرح الاجتماعي والسياسي. كذلك سيناريو (إنذار
بالطاعة) الجيد والمحفز، والذي نجح في تقديم قصة حب رومانسية في إطار جديد
ومشوق وغير مباشر. كما نجح السيناريو في تقديم شخصيات واقعية ومرسومة
بعناية، تنطق بحوار جميل ومركز بعيد عن الثرثرة الكلامية.
وأمام كل هذه الأمثلة المطروحة، يتبين للمتتبع بأن عاطف الطيب كفنان.. كان
همه الأول والأخير، من خلال أفلامه، هو طرح مواضيع وقضايا لصيقة بهذا
الإنسان، مهما تكن النتائج
(...يبدو لي أن الذي
يميز أفلامي هو موضوعاتها، فاختيار الموضوعات يتم بعناية، ولابد أن تكون
مرتبطة باهتمامات المواطن. إني أتلمس المشاكل التي تهم المواطن من الطبقة
المتوسطة، وبالذات من أبناء جيلي...). و(...يجب أن نكون شاهدين على عصرنا،
بلا تزييف أو تشويه.. فأنا أترجم ما يمكن أن يمس كل ما يعتمل داخل الناس،
ويؤثر فيهم.. كل ما يهزهم في حياتهم اليومية. وخلاصة القول.. أن نحاول
التعبير بصدق وأمانة.. عيوننا على ما يحدث في مجتمعنا.. في الحياة، ونشحن
هذا بأعمالنا الفنية...).
وهذا بالضبط، ما حرص على تجسيده عاطف الطيب في جميع أفلامه.. البحث في
قضايا تهم الناس وتناقش مشاكلهم. ومن المؤكد بأن هذا الدافع والهم
الاجتماعي الذي حمله على عاتقه، قد جعله يكثر في الإنتاج، ويلهث وراء
الموضوع الاجتماعي أساساً. ومن البديهي القول بأن السينما ليست موضوعاً
فحسب، وإنما هي فن بصري يعتمد أساساً على التكوين في الصورة السينمائية،
فالموضوع شيء يختلف عن السيناريو (هيكل الفيلم)، فالأهم من ذلك هو كيفية
معالجة هذا الموضوع، من خلال سيناريو مناسب ومنطقي.. وإلا كيف نفسر تميز
فيلم (سواق الأتوبيس) مثلاً، عن بقية أفلام تناولت مرحلة الانفتاح،
فالموضوع واحد هنا.. ثم كيف إن فيلم (الهروب) مثلاً، يتميز عن جميع أفلام
عاطف الطيب الأخرى. ولا نعتقد بأن هذه النقطة الأساسية والبديهية قد غابت
عن مخرجنا الطيب، ولكننا نراه يندفع بحماس وبنوايا حسنة وراء موضوع مهم،
متغافلاً أهمية تلك العناصر الأخرى (تصوير ـ إضاءة ـ لون ـ ديكور وغيرها من
مكونات الكادر السينمائي).. فالحماس والنوايا الحسنة ليست دوماً طريقاً لفن
جيد. حيث من الملاحظ بأن عاطف الطيب لم يكترث كثيراً بتكوينات كادراته
الجمالية والشكلية، مما جعله يقع في ـ أحيان كثيرة ـ في مآزق فنية، نتيجة
ذلك التباين الملحوظ في مستوى أفلامه من حيث الشكل وحتى المضمون أحياناً،
ما بين الجيد والأقل جودة والرديء، مما أوحى للمتتبع بأن عاطف الطيب لم
يتبن ـ قط ـ رؤية سينمائية محددة وواضحة يحمِّلها جميع أفلامه، فيلماً بعد
فيلم.
ثالثا :
الزمن
لقد اختار عاطف الطيب زمناً محدداً لغالبية أفلامه، وهو الفترة الممتدة منذ
مطلع عصر الانفتاح وحتى الوقت الحاضر، أي منذ منتصف السبعينات وحتى مطلع
التسعينات. فقد ناقش الطيب مجموعة من المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية
التي أفرزتها مرحلة الانفتاح والفترة ما بعد الانفتاح، والتي طرأت بشكل
مفاجئ على المجتمع المصري وغيرت في كثير من القيم والأخلاقيات العامة.
ولا نعتقد بأن التدليل على هذا الزمن في تجربة عاطف الطيب سيكون صعباً،
فغالبية أفلامه توحي بهذا الزمن، إما بشكل مباشر أو غير مباشر. فالتفكك
الأسري والتفسخ الأخلاقي للمجتمع في فيلم (سواق الأتوبيس) جاء نتيجة ذلك
التغيير المفاجئ في العلاقات الاجتماعية لعصر الانفتاح، حيث أوحت شخصيات
الفيلم بذلك. ومشاكل الشباب المصري من الطبقة المتوسطة والتي طرحت في فيلم
(الحب فوق هضبة الهرم)، لم تبرز بهذا الشكل إلا في مرحلة الانفتاح وما
بعده. والتصرفات غير المسئولة لبعض رموز السلطة في فيلم (ملف في الآداب)،
كان المعني بها زمن الانفتاح، حيث تفسخ القيم الأخلاقية والمحسوبية. هذا
إضافة إلى أن فيلم (ضربة معلم) يشير بأن مرحلة الانفتاح قد شهدت سيادة
الخارجين على القانون والتحايل عليه وانتشار الفساد والدفاع عنه. أما فيلم
(كتيبة الإعدام) فهو يعلن صراحة بأن السوبر ماركت ما جاءت إلا بعد الخيانة
الكبرى في حرب أكتوبر 73. كذلك الإشارة إلى مكاتب توظيف الأيدي العاملة في
الخارج في فيلم (الهروب)، تشي بأن الفيلم يحكي عن مرحلة الانفتاح، حيث
انتشرت الهجرة إلى الخارج في هذه الفترة بالذات. كما أن مرافعة المحامي في
المحكمة في فيلم (ضد الحكومة) تشير صراحة عن فترة الفيلم، وهي ما بعد عصر
الرئيس السادات. وصحيح بأن فيلمي (الزمار) و(البريء) لم يشيرا صراحة
بالزمان، حيث الزمان مسكوت عنه في الفيلمين، إلا أن ذلك قد جاء إما
لاعتبارات فكرية، أو لظروف رقابية بحتة. أما فيلمي (قلب الليل) و(ناجي
العلي) فالزمن فيهما يتبع زمن الرواية أو يتبع السيرة الذاتية، المأخوذ
عنهما الفيلمين.
بعد هذا العرض لبيان الزمن في أفلام الطيب، لا بد أن يرد هذا التساؤل..
لماذا اختار عاطف الطيب هذا الزمن بالذات في غالبية أفلامه؟ وللإجابة على
هكذا تساؤل، لا بد من التأكيد على أن كافة الموضوعات والأفكار والأطروحات
التي حملتها أفلام عاطف الطيب، تمثل وجهة نظر شخصية للمخرج، أي إنه يتبناها
ويؤمن بها تماماً. فهو مثلاً، في أحد أحاديثه الصحفية، يؤكد هذا التصور، بل
ويسهب في الحديث، عندما يتذكر إحدى لقاءاته الجماعية مع صديقيه المخرج محمد
خان والسيناريست بشير الديك، في مقهى في وسط مدينة القاهرة، في أوائل
الثمانينات، حيث كان الحديث عن السينما والسياسة والحياة. يتحدث عاطف
الطيب، فيقول: (...لا أستطيع القول بأن أحلامنا
وأفكارنا ساعتها كانت واضحة أبداً، كانت مجرد إرهاصات، تنبؤات، آمال.. كنا
نستبصر الدنيا، ونحن نسعى لشمول ثقافي، لا يعني القراءة فقط، ولكن الحياة
مع مختلف الشرائح، فهم مجريات الأمور، الاحتكاك بالواقع، ملازمة التجارب..
والقراءة أيضاً.. كان سؤالنا ـ المر ـ كيف استطاع السادات في عشر سنوات أن
«يشخبط» إنجازات عبد الناصر، رغم الجماهيرية الواسعة التي كانت تحيط بناصر
وإنجازاته، رغم انحيازه للناس والفقراء، كيف تمكن السادات من كل هذه
«الردة»، والرجل لم تمر ذكراه الخامسة بعد!! كان يعني ذلك ـ لدينا وقتها ـ
أمرين: الأول، أن خطأً ما شاب تجربة ناصر، علينا أن نعرفه وندركه. والثاني،
أنه لا بد من مواجهة ما يحدث ـ فناً بالطبع ـ وطرح حل واضح كحد أدنى، وهو
بث الهمة. قد تسأل، هل كانت هذه نظرية موجودة على مائدتنا في المقهى.. لا
بالتأكيد.. كل هذا أذكره الآن من أطراف الأحاديث والذكريات والمحاورات.. لم
يطرح هكذا بوضوح ولم يعلن بقوة، لكن هل تتصور، بأننا قد طرحناه كما قلته
بالضبط في الأفلام...).
وهذا ما يفسر ثبات الزمن ـ إلى حد كبير ـ في غالبية أفلام الطيب، إذ أراد
بذلك أن تكون أفلامه شاهداً على هذه المرحلة الزمنية بالذات.
رابعا :
المكان
إن للمكان في السينما دوراً بارزاً وهاماً في التأثير على الأحداث
والشخصيات. وفي كثير من الأحيان، يصبح للمكان شخصية مستقلة وشكلاً خاصاً،
ليلعب دوراً درامياً فعالاً وهاماً في التعبير الدرامي، بدل بقائه كخلفية
فقط للحدث الدرامي. هذا ـ بالطبع ـ إذا إستُغِّل هذا الدور التأثيري. أما
كيفية قياس هذا الدور للمكان، فلا يكون ـ طبعاً ـ بالحيز الزمني المتاح
للمكان على الشاشة، بل إن قياسه يكمن في أهمية هذا المكان من حيث كونه
شخصية فاعلة ومؤثرة في الشخصيات والأحداث. وبالرغم من أن عاطف الطيب قد قام
بتصوير مجمل أفلامه خارج الأستوديو (المدينة ـ القرية)، إلا أن المكان في
أفلامه، قد تأرجح بين الدور الإيجابي والدور السلبي، معتمداً على ما يحمله
السيناريو في هذا الخصوص. وغالباً ما نرى كاميرا الطيب تجوب الشوارع
والأزقة متتبعة للشخصيات وانفعالاتها، دون أن يكون للمحيط المكاني دوراً في
هذه الانفعالات.
ففي فيلم (التخشيبة) مثلاً، لم يكن لمواقع التصوير دوراً حقيقياً في
التأثير على الأحداث والشخصيات، هذا بالرغم من الإحساس بالكآبة في مكاتب
الأمن ومراكز الشرطة. لذلك كان المكان مجرد خلفية للأحداث فقط.
وفي فيلم (البريء)، نلاحظ بأن شخصية القرية كانت بارزة، وتأثيرها على
تصرفات الشخصيات كان واضحاً، بل أن الشخصية الرئيسية نفسها أخذت مصداقيتها
من جو القرية. أما بالنسبة للمعتقل كمكان، فكان فقط خلفية للأحداث، وتصرفات
الشخصيات كانت تعبر عن نفسها وتعبر عن الحدث. وهناك مشهد قصير صور في
القطار، فبالرغم من قصر هذا المشهد، إلا أن القطار كان تأثيره واضحاً علي
المشهد، وكان وراء ذلك التصرف الذي قام به أحمد زكي في محافظته ودفاعه عن
إلهام شاهين.
كما إن الجو البوليسي والمطاردات التي احتواها فيلم (ضربة معلم)، قد فرضت
أماكن معينة تناسب هذا الجو، وبالتالي أصبح المكان خلفية للأحداث فقط.
أما في فيلم (الهروب)، فقد اتخذ المكان حيزاً هاماً، بل كان له دور البطولة
أحياناً، وكان ذو شخصية واضحة ومؤثرة في الأحداث والشخصيات في غالبية
المشاهد، فكل جزئية فيه محسوب لها، ومستقلة في تكوين الموقف والحدث. مثلاً،
في مشاهد محل الخضار في السوق، بالذات مشهد التفتيش عن منتصر عند تعلقه في
السقف، حيث لم يكن أن يحدث لولا وجوده في هذا المكان بالذات. وفي مشاهد
القرية، وبالذات مشهد الجنازة، حيث كان طابع الجنازة مرتبطاً ارتباطا كلياً
بالطابع العام للقرية، ولولا هذا الطابع الخاص والمؤثر على الحدث، لما تمكن
منتصر من الهروب من أيدي الشرطة. بالإضافة إلى ذلك المشهد الليلي، عند
مفاجأة منتصر من قبل الضابط، وهو مستغرق في التفكير. وفي مشاهد شقة صباح
أيضاً، وبالذات مشهد افتعال «الخناقة» ليتمكن منتصر من الهروب. وكل هذه
أمثلة فقط، وليست حصراً لأهمية المكان في فيلم (الهروب)، حيث المكان مختار
بدقة وعناية فائقة.
وللمكان في فيلم (إنذار بالطاعة) شخصية مؤثرة في الحدث الدرامي، وكان لصيق
بالشخصيات، بل أنه قد أعطى مبررات منطقية للأحداث ولتصرفات الشخصيات. حيث
نرى الحواري الضيقة التي تحاصر الحركة وتطبق على الأنفاس، والبيوت البسيطة
ذات الجدران المتهالكة، والتي تحاصر ساكنيها وتدفعهم إلى الهرب والفكاك
منها.
خامسا :
الإخراج
والعناصر الفنية والتقنية الأخرى
يصل بنا الحديث عن الإخراج والجانب التقني والفني في أفلام عاطف الطيب، فمن
الملاحظ بأن هناك تبايناً واضحاً في أسلوب الطيب الإخراجي وفي المستوى
الفني والتقني لأفلامه.. مما يوحي بأن الطيب لم يتبنى رؤية سينمائية فنية
محددة وواضحة يحمِّلها جميع أفلامه، فيلماً بعد فيلم. هذا بالرغم من أن
الطيب ـ كمخرج حرفي ـ قدم مستويات فنية تقنية جيدة، في كثير من الأحيان..
خصوصاً وأنه ـ في تعاونه مع فريق العمل الفني ـ قد كرر في أفلامه أسماء
معروفة كل في مجاله. فمثلاً في مجال التصوير تعامل مع سعيد شيمي في 8
أفلام، ومع عبد المنعم بهنسي في 3 أفلام، ومع محسن نصر وهشام سري في فيلمين
لكل منهما. وفي مجال المونتاج تعامل مع نادية شكري في 10 أفلام، ومع أحمد
متولي في 5 أفلام، ومع سلوى بكير في 4 أفلام. وفي مجال الموسيقى التصويرية
تعامل مع مودي الإمام في 5 أفلام، ومع عمار الشريعي في 3 أفلام، ومع محمد
هلال في 3 أفلام. أما في التمثيل، فقد تعاون مع ألمع النجوم.. فمع نور
الشريف قدم 9 أفلام، ومع أحمد زكي قدم 5 أفلام، وقدم لكل من: محمود عبد
العزيز، نبيلة عبيد، ليلى علوي، ممدوح عبد العليم، ثلاثة أفلام. ومع كل
هؤلاء الفنيين والفنانين، قدم عاطف الطيب مستويات فنية راقية، خصوصاً في
مجال الأداء التمثيلي. إلا أن هذا لا ينفي بأن كل فيلم يقدمه يختلف عن
الفيلم الآخر في الأسلوب والرؤية الفنية.
وبالرجوع إلى الببلوغرافيا، سنجد ـ مثلاً ـ بأن أفلام الطيب ـ في غالبية
مشاهدها ـ تعتمد على التصوير خارج الأستوديو. ويأتي ذلك إما لأن التصوير
خارج الأستوديو أقل تكلفة إنتاجية، أو سعياً للوصول إلى الصدق الفني
وبالتالي الوصول إلى المتفرج بسهولة. ومهما يكن السبب في خروج الكاميرا من
الأستوديو، فقد جاء ذلك في صالح العمل الفني عموماً.. حيث كانت الكاميرا
تجوب الشوارع والأزقة بحركتها الحرة والملفتة، خصوصاً الكاميرا المحمولة
منها، والتي أضفت نوعاً من الحركة على المشاهد بشكل عام. ويتضح ذلك أكثر في
أفلام (سواق الأتوبيس ـ الحب فوق هضبة الهرم ـ ملف في الآداب). أما بالنسبة
للإضاءة، فقد كانت في كثير من الأحيان إضاءة درامية معبرة ومساهمة في خلق
الجو الداخلي للمشهد (الغيرة القاتلة ـ سواق الأتوبيس ـ الزمار ـ البريء ـ
قلب الليل ـ الهروب). على العكس من أفلام (التخشيبة ـ كتيبة الإعدام)
مثلاً، حيث لم يكن للإضاءة دوراً مهماً وبارزاً في التعبير الدرامي، بل
يمكن أن نقول عنها بأنها كانت إضاءة تكميلية فقط.
نصل الآن للحديث عن تكوين الكادر الجمالي، واختيار زوايا التصوير وحجم
اللقطات، حيث نلاحظ بأن عاطف الطيب لم يكترث كثيراً بتكوينات كادراته
الجمالية والشكلية، إلا فيما ندر. وبما أن أداة التعبير في السينما أساساً
هي الصورة، فلا بد أن يكون هناك اهتمام واضح بهذه الصورة، والمقصود طبعاً
الصورة الدرامية المعبرة. ففي غالبية أفلام عاطف الطيب (التخشيبة ـ الحب
فوق هضبة الهرم ـ ملف في الآداب ـ كتيبة الإعدام ـ ضد الحكومة ـ دماء على
الإسفلت) كان الموضوع الجيد والجريء طاغياً على كل شيء، أقصد ذلك الموضوع
الذي أعتمد في الأساس على الحوار الكثيف والمباشر، وعلى عناصر أخرى غير
الصورة في التوصيل، مما أدى إلى التقليل من أهمية لغة الصورة المعبرة
وجعلها ضعيفة في كثير من الأحيان. بل أن في بعض أفلام الطيب كان من الصعوبة
بمكان الكشف عن أي ابتكار فني جمالي، يكفي لإفراز طاقات وإمكانيات فنية
جمالية للعمل الفني. وبالتالي اختفى ذلك الدور التعبيري للصورة. ويتضح ذلك
في أفلام (أبناء وقتلة ـ البدرون ـ الدنيا على جناح يمامة). وهذا الحديث ـ
بالطبع ـ لا ينطبق على أفلام قليلة مثل (سواق الأتوبيس ـ الزمار ـ البريء ـ
قلب الليل ـ الهروب ـ ناجي العلي ـ إنذار بالطاعة). ففي فيلم (سواق
الأتوبيس) مثلاً، كان هناك تصوير أخاذ، وزوايا تصوير مدروسة بعناية، وإضاءة
درامية موفقة غالباً. وفي (الزمار) كانت حركة الكاميرا وزوايا التصوير في
قمة تألقها، حيث وفق الطيب في إعطاء تكوينات جمالية للكادر في كثير من
الأحيان، هذا بالرغم من أنها كانت تكوينات مبعثرة في زوايا الفيلم، ولم تكن
تشكل أسلوباً واضحاً للإخراج. كذلك في (قلب الليل) حيث تميز التصوير
بتكوينات جمالية رائعة للكادر، واستخدام موفق للإضاءة داخل المشاهد، وهي
إضاءة درامية أعطت إيحاءً بالفترة التاريخية، وذلك باستخدام موفق للمرشحات
المختارة من قبل المخرج ومدير التصوير، مما أضفى على المشاهد شفافية معبرة.
إلا أن كل ذلك كان في النصف الأول من الفيلم، حيث افتقد النصف الثاني منه
لكل هذا الإبداع. وفي (ناجي العلي) هناك جهد ملحوظ وعالي المستوى في
التصوير، حيث الاختيار الموفق لحجم اللقطات وزوايا التصوير، إضافة إلى
الإضاءة الدرامية المعبرة، خصوصاً في المعارك الليلية التي اتسمت بالشاعرية
الواقعية. أما في فيلم (الهروب)، فقد حقق التصوير والإضاءة مستوى عالياً من
الحرفية، وخلقا الجو المتناسب مع الحدث الدرامي، كما نجحت الكاميرا في
التعبير عن ذلك التوتر الدرامي بحركتها الحرة في الأماكن المغلقة أو
بالاهتزاز المتوتر عند التصوير فوق سطح القطار مثلاً. وبالتالي تميز
التصوير بتكويناته الجمالية القوية والمعبرة.. حيث كان هناك حقاً اهتمام
بالجانب الجمالي في هذا الفيلم.
نأتي للحديث عن تجربة المونتاج في أفلام عاطف الطيب.. حيث أن لهذا العنصر
أهمية كبيرة في السينما، باعتباره عامل حاسم في المحافظة على الإيقاع العام
للفيلم، والتحكم في العلاقة بين التصاعد الدرامي للحدث وبين شخصيات الفيلم.
ففي أفلام الطيب، نلاحظ ذلك التفاوت الفني لدور المونتاج وأهميته.. كما أن
هناك تفاوتاً واضحاً في اعتماد عاطف الطيب على المونتاج من فيلم إلى آخر.
فمثلاً في بعض الأفلام التي قدمها الطيب (سواق الأتوبيس ـ التخشيبة ـ ملف
في الآداب ـ ضربة معلم ـ كتيبة الإعدام ـ ضد الحكومة ـ دماء على الإسفلت)،
كان للمونتاج دور مهم في الحفاظ على إيقاع تصاعدي لاهث وتشويقي متناسب
والحدث الدرامي. وفي (ملف في الآداب)، نجد قطعاً سريعاً ولاهثاً يعتمد
المونتاج المتوازي في التعبير الدرامي . وفي (ضربة معلم) هناك مونتاج سريع
ولاهث، ويتناسب وأسلوب التشويق والحركة الذي اتخذه الفيلم. وفي أفلام (ناجي
العلي ـ ضد الحكومة ـ دماء على الإسفلت ـ إنذار بالطاعة)، نلاحظ مونتاجاً
جيداً احتفظ بنبض الفيلم الدرامي وانفعالات الشخصيات. وفي المقابل هناك في
أفلام (الغيرة القاتلة ـ الزمار ـ البريء ـ أبناء وقتلة ـ البدرون ـ قلب
الليل) مثلاً، إخفاقات وتذبذب في مستوى المونتاج من مشهد إلى آخر، مما أدى
إلى عدم السيطرة على إيقاع الفيلم العام.
أما بالنسبة للموسيقى التصويرية في أفلام عاطف الطيب ، فهي ـ بشكل عام ـ
متوافقة مع الحدث وتعبر عنه. وعلى أقل تقدير، تكون ـ أحياناً ـ خلفية
للحدث، إن لم تعبر عنه. كما يلاحظ في موسيقى أفلام الطيب، بأنها تتميز
بالطابع الحزين المعبر، وتعتمد ـ غالباً ـ على نفخات الناي الحزينة أو آلة
أخرى مصاحبة (سواق الأتوبيس ـ التخشيبة ـ الحب فوق هضبة الهرم ـ الزمار ـ
ملف في الآداب). وموسيقى أوركسترالية حزينة معبرة في أفلام (البريء ـ قلب
الليل ـ الهروب ـ ناجي العلي ـ إنذار بالطاعة). أما في فيلمي (أبناء وقتلة
ـ البدرون) فهناك استثناء، حيث كانت الموسيقى تقليدية صارخة، تتناسب
والطابع الميلودرامي الذي طرحه الفيلمان. أما موسيقى الفنان مودي الإمام،
والذي بدأ التعاون مع الطيب منذ فيلمه (قلب الليل) ومن بعدها في أفلام
(الهروب ـ ناجي العلي ـ ضد الحكومة ـ دماء على الإسفلت)، فهي موسيقى حديثة
جيدة وموحية، وتشكل نقلة في التعبير الدرامي للموسيقى في السينما المصرية
عموماً. ففي فيلم (الهروب) مثلاً، نجد موسيقى رائعة جداً، استطاعت أن تعمق
الكادر السينمائي، وكانت جزءاً أساسياً في تكوين الصورة وليست ظلاً لها
فحسب، خصوصاً في ذلك المؤثر الصوتي الجميل (صوت راعي الجمال) والمتناسب مع
الموقف الدرامي في تجسيد العلاقة بين البطل والصقور المحلقة.
والتمثيل ـ أيضاً ـ في أفلام عاطف الطيب، كان عنصراً هاماً، استخدمه الطيب
في توصيل ما يريده للمتفرج، مستفيداً في ذلك من قدرات ممثليه الذين اختارهم
بعناية شديدة. بل إنه في بعض أفلامه اعتمد ـ بشكل أساسي ـ على تلك القدرات
الأدائية للممثل في التوصيل، متناسياً الاهتمام ببقية العناصر الأخرى. كما
حدث فعلاً في فيلمه (البريء)، عندما كان أداء أحمد زكي هو الفيصل الحقيقي
الذي جعلنا نصدق سبع الليل، ونتابع معه خطوات مغامرته الكبيرة هذه.. إن
أحمد زكي، بهذا الصدق في الأداء قد جعل المتفرج يتعاطف مع الشخصية إلى درجة
التماهي، حيث أن المتفرج قد نسى أو تجاهل أن يفتش عن الأخطاء والسلبيات
التي احتواها الفيلم. بل إن هذا التماهي قد جعله لا يرى ما يمكن أن يخالف
المنطق أحياناً. وقد كان عاطف الطيب عموماً، حريصاً جداً في اختياره
لممثليه، بل ونجح ـ إلى حد كبير ـ في إدارتهم بشكل ملفت للنظر، مستفيداً من
قدرات أدائية كامنة فيهم ولم تستثمر قبل ذلك.. حيث كان الممثل في أغلب
أفلام الطيب، في أفضل حالاته. ولا يمكن للمتفرج أن ينسى مثلاً، أداء نور
الشريف في (سواق الأتوبيس)، أو أداء نبيلة عبيد في (التخشيبة)، أو أداء
مديحة كامل وصلاح السعدني في (ملف في الآداب)، ولا يمكن ـ أيضاً ـ نسيان كل
تلك الشخصيات الرائعة، التي أداها أحمد زكي في أفلام (التخشيبة ـ الحب فوق
هضبة الهرم ـ البريء ـ الهروب ـ ضد الحكومة).
وبعد أن تحدثنا عن التصوير والمونتاج والموسيقى والتمثيل في أفلام عاطف
الطيب، باعتبارها عناصر فنية تقنية هامة، تسخر لخدمة المخرج في صياغة رؤيته
الإخراجية للعمل الفني. يبقى أن نتحدث عن العملية الإخراجية نفسها، وقدرات
المخرج في السيطرة على مجمل هذه الأدوات الفنية والتقنية، للوصول بالفيلم
إلى أفضل مستوى فني.
وإذا استعرضنا أمثلة من الببلوغرافيا، تجسد مستوى الإخراج عند الطيب. فسنجد
مثلاً بأن الإخراج في فيلم (التخشيبة) كان موفقاً إلى حد ما في تنفيذه
للسيناريو، وليس هناك جديد فيه، هناك فقط إدارة جيدة للممثلين. كذلك
الإخراج في (الحب فوق هضبة الهرم) الذي كان تقليدياً، يشوبه بعض اللمحات
الفنية الجيدة، هذا بالرغم من أن هناك إدارة جيدة للممثل والكاميرا، خصوصاً
المحمولة منها. وفي فيلم (الزمار) نجد إيقاعاً منسجماً نوعاً ما في
الإخراج، مع وجود اهتمام بالكادر الجمالي للصورة، في أحيان كثيرة. ولا يمكن
نكران ذلك الجهد الفني المبذول من المخرج في فيلم (ملف في الآداب) في
الاحتفاظ بالنبض المتدفق والإيقاع السريع واللاهث للفيلم. كما أن المخرج
نجح في الموازنة بدقة بين الإيقاع البوليسي للفيلم، وبين إيقاعه كفيلم يحمل
هدفاً فكريا اجتماعيا. وفي فيلم (ضربة معلم) نجد إخراجاً جيداً حافظ على
عنصري التشويق والحركة حتى نهاية الفيلم، مما ساهم في انتشال الفيلم من
السقوط في السطحية. وكان خطأ الإخراج في فيلم (قلب الليل) هو أن المخرج كان
أميناً للعمل الروائي إلى درجة فقدانه للغته السينمائية، وارتباك هذه اللغة
في أحيان كثيرة، مما جعل الفيلم يتخبط في لهاثه وراء العمل الأدبي. هناك
سيطرة من المخرج في الجزء الأول على تنفيذ كادراته، هذا إضافة إلى الشفافية
التي ساهمت في جمالية المشاهد.. أما بقية الفيلم، فقد افتقد لكل تلك
التقنيات الإبداعية، بل وضاع وراء تجسيد سردية القص الروائي، لدرجة شعورنا
بأن الفيلم قام بإخراجه اثنان ـ يختلفان تماماً في الرؤية السينمائية. أما
في فيلم (الهروب) فنجد مستوى فنياً جيداً في الإخراج، وصل به مخرجه إلى
درجة كبيرة من الإتقان، حيث نجح في إدارة فريقه الفني من فنانين وفنيين.
فهناك، حقاً، إبداع أدائي من الممثلين، إن كان في الأدوار الرئيسية أو
الثانوية. وهناك أيضاً تمكن واضح من المخرج في السيطرة على أدواته الفنية
والتقنية. وهناك جهد واضح يحسب لصالح المخرج في فيلم (ناجي العلي) إن كان
في تجسيد المعارك أو في تحريك المجاميع. وهناك أيضاً سيطرة كاملة على
أدواته الفنية والتقنية كمخرج. وفيلم (إنذار بالطاعة) يتميز بإخراج جيد، ذو
إيقاع متناغم مع الأحداث والشخصيات، وهناك تكوينات جمالية للكادر في أغلب
المشاهد. إدارة موفقة من المخرج لأدواته الفنية والتقنية.
وختاماً نتوصل إلى إشكالية هامة بالنسبة لتجربة المخرج عاطف الطيب
السينمائية، وهي إن مشكلته كمخرج، تكمن في أسلوبه الإخراجي المبسط إلى درجة
كبيرة، وذلك باعتماده على الموضوع والموقف الجريء ـ بشكل أساسي ـ في
التوصيل.. هذا بالرغم من أن هناك في أفلامه كم كبير من الشعر والرمز
والموسيقى، إضافة إلى الأفكار والعناصر (الأدوات) التقنية.. إلا أنها
جميعاً تفتقد ـ في نفس الوقت ـ لتلك الرؤية الإخراجية الخاصة التي في
إمكانها توظيف كل تلك الإمكانيات التقنية والفنية للانطلاق بالعمل الفني
إلى آفاق فنية وإبداعية قد تثير الإعجاب، وترتقي بالمستوى الفني للفيلم..
فسينما اليوم لا بد أن تكون قادرة على الجمع ما بين الشكل والمضمون في إطار
متوازن ومحسوب. |