سينماتك/ جديد الموقع/ مجلة «عالم الكتاب»: عطيات الأبنودي عاشقة الناس والسفر (ملف خاص)

لم تكن تعلم عطيات عوض ابنة السنبلاوين عندما جلست صغيرة في سينما عدن بالمنصورة للمرة الأولى تحدق في الشاشة الكبيرة الساحرة بعينين متسعتين، ثم خرجت من الفيلم تحلم بأنور وجدي الذي سيأتي ليكتشفها، أن لها مع فن السينما مصير، وأنها ستكون أحد كهنة هذا العالم وسَحَرَتِه.

كذلك أنا،كان لي مع سحر سينما عطيات ،ومع عطيات الإنسانة الاستثنائية موعد. لم أكن على اطلاع كبير بسينما عطيات الأبنودي من قبل إلا نذر يسير جدًا قوامه ثلاثة أفلام – با كورة أعمالها السينمائية ومشاريع دراستها وتخرجها - هي كل ما تستطيع الحصول عليه، ومتوفر على شبكة الانترنت، ومع ذلك وللوهلة الأولى تلاحظ أن ثمة شيء لافت ومميز في هذه الأفلام، بها شيء مختلف وحساس، وعالم بصري بلغة قصائد الشعر أشبه، يغلفه حس درامي. لم تكن أفلامها الأولى شبيهة بنوع الأفلام التسجيلية التي تعرفها تلك الفترة من سابقيها ، وحتى مجايليها من صناع السينما التسجيلية.

وكلما حاولت أن أحتفظ بتلك المسافة الفاصلة بين الناقد والعمل الإبداعي الذي يشاهده، لم أستطع أن أمنع نفسي من التورط "عاطفيًا" معها. كلما "تقدمت إلى العمق" - كعنوان أحد أفلامها – انغرست قدماي كـ"حصان الطين" في عالمها الموغل في واقعيته جدًا كما أرادت له ولنفسها أن تكون.

اختيارات عطيات

هذه الإنسانة الفريدة التي شكَّل "الاختيار" مفتاح الولوج إلى شخصيتها وإلى جُل عالمها الإنساني والإبداعي، اتسمت بإرادة حديدة، وبالاختيارات الواعية والذكية التي كان ورائها بصيرة نافذة، وذهنية متقدة، وعقلية ناضجة مبكرًا ، وبقيت في كل اختياراتها مخلصة لها تمامًا ، مما يجعل منها شخصية ملهمة وآسرة، تقف متأملًا لسيرة حياتها، فتتوقف طويلًا أمام شخصيتها بقدر توقفك أمام أفلامها.

نستطيع أن نلخص شخصية عطيات الأبنودي في كلمة واحدة "الاختيار". فهي اختارت الفن ابتداءً سبيلًا صعبًا في الحياة، كان اختيارها للفن من عتبة التمثيل، لكنها لم تحبه! كانت تحكي أن فلسفة التمثيل لا تناسب شخصيتها، فتقول: "مكنتش بعرف أعبر عن المشاعر بأفضل صورة.. ومش حاسة إن التشخيص عن شخصيات تانية شيء صادق مية في المية"، هكذا كانت تبرر الأمر، "كانت بتقول أنا بحب الناس لحم ودم من غير تزويق.. أنا مش عايزة أمثل الناس، أنا عايزة الناس.. محتاجاهم حقيقيين". فاختارت سكة جديدة ليعرج عليها قطار طموحها، وهي أن تخرج أفلامًا، وليست الأفلام الروائية الأكثر رواجًا وشهرة، وتضع صانعيها تحت الأضواء، اختارت "الناس" .. الناس "الحقيقيين" من غير "زواق" ولا تجميل، كانت تقول لأي مدير تصوير يعمل معها "هاتلي وشوش الناس"، فهي مغرمة باللقطات القريبة لوجوه المصريين بوجه عام.

هي اختارت السينما التي تشبه ذوقها الشخصي ببساطة، فكانت تروي لعبد الرحمن الأبنودي في يومياتها أنها حضرت فيلمًا أمريكيًا هوليوديًا لم يعجبها فتقول:" فيلم أمريكاني كوميدي، والأبطال جميعا مصابون بحالة من العبط" .. بينما تروي له في موضع آخر: "شاهدت فيلم EVE أو حواء في سينما أوبرا ، إنني مجنونة بالاتجاهات الجديدة في السينما العالمية، هذا التلخيص الشديد في التعبير بالصورة، قطعات المونتاج التي تجعلك تفهم وتربط بين كل الأحداث، التصوير غير المعقول مع حركة الكاميرا غير العادية.. حاجة تجنن.... لم أعد أستطيع أن أشاهد الأفلام إلا بعقلي، أنبهر بما يحدث أمام عيوني من إمكانيات الصورة..." ومن هنا يظهر شغفها الكبير بـ"السينما التالتة" التي أفردت لها كتابًا بحثيًا يكشف عن جانب آخر من جوانب عطيات الكاتبة والباحثة فضلًا عن المخرجة والفنانة، تتبعت فيه كل الحركات السينمائية الفنية التي خرجت عن السائد وتحدت المألوف التي تقدمه سينما هوليود، وارتبط ذلك بالأحداث السياسية في أزمنة التحولات التاريخية الكبرى التي تخلق معها في كل مرة حركة سينمائية تصاحبها وتعبر عنها. وطرحت السؤال: هل تصبح السينما الفن الشعبي للقرن الحالي؟ وهي تعلم الإجابة مسبقًا، لأنها أدركت أن صناعة الأفلام لم تعد حِكرًا على أحد، وأن التقدم التكنولوحي الهائل جعل الكاميرا في متناول كل يد، وأن كل إنسان أصبح من حقه أن يروي حكايته الخاصة. في الوقت الذي كانت فيه السينما تصنع بالفيلم الخام المكلف.

هذا الملف..

بعد رحيل عطيات الأبنودي عن عالمنا فيزيقيًا ومغادرة روحها المنطلقة سجن الجسد الذي كان في فترة مرضها و آخر أيامها يعيقها عن التعبير عما يدور في ذهنها، لكنها باقية خالدة بشرائط أفلامها الحية النابضة الوثيقة الهامة على ناس مصر لأن مصر الحقيقية بناسها، يظل السؤال معلقًا في الأذهان؟ مَنْ كانت عطيات الأبنودي؟ وما السينما التي قدمتها؟ وكيف تسهم عطيات في نقاش المستقبل حول الوضع الحالي للسينما المستقلة والتسجيلية ومآلاتها؟ ومن كانت بالفعل عطيات الإنسانة التي لم يعرفها الكثيرون؟ كيف نستطيع أن نقدمها، وإن كنا لن نفيها حقها.

حرصنا على أن يشتمل الملف على مادة منوعة للقاريء المهتم بسبر أغوار هذه الفنانة المهمة في تاريخ السينما المصرية والتسجيلية، ونقدم للباحث والدارس المتخصص أيضًا مادة وافية قد يكون هذا الملف منطلقه بما احتواه من تركيز غير مسبوق في الصحافة النقدية العربية والمحلية في التعاطي مع شخصية عطيات الأبنودي وتناولها من كافة جوانبها. فسنجد في هذا الملف المقالات النقدية التي تنوعت فيها الأصوات النقدية من أجيال مختلفة لنقاد ومهتمين بالكتابة عن السينما من أكبر الأفلام المخضرمة والخبيرة بالنقد مرورًا بجيل وسط وجيل شباب النقاد حتى طالب شاب يدرس السينما لم يكن يعرف أفلام عطيات من قبل وخاض تجربة مشاهدتها وروى لنا انعكاسات هذه التجربة على وعيه كسينمائي شاب وما الأسئلة التي طرحتها عليه سينما عطيات وتأملاته الذاتية فيها وكيف تأثر بها في ظل غياب تام لطرحها كنموذج ومثال على طلبة السينما. قدم لنا النقاد مواد ثرية جدًا وقراءات مختلفة لقضايا تطرحها علينا أفلامها. كما أننا لا نغفل أن عطيات كاتبة بجانب الإخراج السينمائي، وأنتجت أربعة كتب في حياتها الثرية بالعمل تنوعت بين البحث،وبين ما يشبه السيرة الذاتية، وقدمنا في الملف لمراجعات لهذه الكتب جميعًا، بما فيها الكتاب النادر الذي لم ينشر سوى مرة وحيدة ولم يعد طبعه، ونشرت منه حلقة وحيدة في مجلة نصف الدنيا، الكتاب المثير للجدل "أيام لم تكن معه" والذي كانت ستنشره تحت عنوان "مواسم الغفران" لكنه أثار حفيظة زوجها الأسبق عبد الرحمن الأبنودي وحارب نشره بكل الطرق، وأوقفت نشر حلقاته الأستاذة سناء البيسي رئيسة التحرير السابقة للمجلة و روت لنا أسباب هذه الواقعة التي كانت شاهدة عليها. كما أجرينا في هذا الملف حوارات متميزة جدًا مع ابنة عطيات بالاختيار أسماء يحيى الطاهر عبد الله تناول الجوانب المختلفة الإنسانية لهذه العلاقة الاستثنائية. كذلك حوار مع مدير تصويرها المفضل وصديقها المقرب الأستاذ محمد شفيق. كذلك حرصنا في هذا الملف أن يضم سيرة ذاتية خاصة بها وفيلموجرافيا لأفلامها ليستفيد بها الباحثون والمتخصصون، ومواد نادرة من أرشيفها من داخل منزلها، فضلًا عن ألبوم صور يضم صورًا هامة لها في داخل أماكن التصوير، ومع أصدقائها، وفي مراحل عمرية مختلفة. كما أننا حرصنا على الإنصات لشهادات أقرب المقربين لها من أصدقائها ومحبيها وبعض العاملين معها من فريقها عن كثب الذين اختارتهم واصطفتهم في حياتها، شهادات غاية في الرقة والعذوبة لأصدقائها المخرجة نادية كامل، الفنانة عزة فهمي، المخرج والمونتير تامر عزت، المخرج محمد حماد،المخرجة والكاتبة عزة شعبان، المونتيرة صفاء الليثي، مدير التصوير الشهير محمود عبد السميع، الناقد والأكاديمي د. حسين حمودة، مهندس ا لصوت جاسر خورشيد..

وأخيرًا، أستطيع القول أن هذا الملف كان تجربة خاصة جدًا وثرية بالنسبة لي، كان بمثابة رحلة عاطفية خضتها في عوالم عطيات الأبنودي التي لم أكن أعرفها حق المعرفة، وعندما عرفت بعض جوانبها وقعت في حبها. عندما كنت أعمل على إعداد الملف وأتحدث لأي شخص كان مقربًا من عطيات، أرى هذا الحب الصادق، والعاطفة المتدفقة، والاستعداد التام لأن يفعلوا من أجل ذكراها أي شيء، وأن يساهموا بأي مساعدة في سبيلها، فكل الشكر للصديقة العزيزة والمخرجة أستاذة نادية كامل على الدعم الصادق، والابنة المختارة الصديقة الغالية ابنة الأكرمين أسماء يحيى الطاهر عبد الله المخلصة للذكرى والتي فتحت لنا أبواب منزلها وأبواب قلبها وقدمت لنا كل الدعم بتوفير الأفلام المتاحة لديها، والمواد الأرشيفية،ولم تدخر جهدًا لإمدادنا بكل ما ينقصنا لتكتمل لنا الرؤية لإضاءة الجوانب الخفية في عالم عطيات الجميلة. كذلك الأصدقاء الذين تهدجت نبراتهم بالدمع وهم يقصون عنها شهاداتهم،ما يجعلني أقول أن هذا ليس ملفًا عن السينما فحسب، بل عن قيمة الصداقة أيضًا، وقيمة أن تحسن اختيار أصدقائك، فهم من يكونون بجانبك في حياتك، وهم من يذكرونك بطيب الأثر في وفاتك.

لذلك أحب أن أختم بهذه الفقرة من خطاب لعطيات الأبنودي وجدناه بين أوراقها الخاصة لأحد أصدقائها:

"الأخ الصديق عبد الوهاب.. الأخت تهاني.. أعتقد أن على الأصدقاء أن يبذلوا قليلًا من الجهد حتى يثبتوا أنهم أصدقاء وخاصة لأني مررت في حياة أصدقائي مرورًا طيبًا وكنت في حدود إمكانياتي أبذل جهدًا في إثبات أني صديقة: وإلا الدنيا خلاص..."

هكذا كانت عطيات .. رحمها الله.