(في صمت رحلت عن عالمنا المخرجة عطيات الأبنودي، يوم 5 أكتوبر 2018، صاحبة فيلم
"حصان الطين" والذي يعتبر علامة فارقة في تاريخ السينما التسجيلية المصرية)
لقد ظلت السينما التسجيلية المصرية (حتى أواخر الستينيات من القرن العشرين)
تقدم أفلامًا تقتصر أو تكاد - على الأحداث الهامة والاحتفالات الوطنية والدينية
والشعبية، وتقديم الشخصيات القيادية وملاحقة الإنجازات الحكومية خاصة، والآثار
والفنون التشكيلية وما شابه ذلك، بعيدة كل البُعد عن أحوال الناس وهمومهم.
حتى جاءت عطيات الأبنودي لتقدم فيلم "حصان الطين"، 1971، حيث يحمل الفيلم
رؤيتها الذاتية بعد أن كان المخرج يُعبر عن رؤية ممول الفيلم، كما أن الرؤية
التي قدمتها عطيات موضوعها الأساسي الطبقة الدنيا من فقراء الناس المُهمشين.
تحمل وجهة نظر نقدية لأوضاع المجتمع الطبقية. وأَتبَعت "حصان الطين" بأفلام
مماثلة خلقت بها تيارًا جديدًا غير مسبوق في السينما التسجيلية المصرية، مما
جعلها رائدة لهذا التيار، وهو ما يمكن أن نطلق عليه تيار سينما الغضب التسجيلية
أو تيار السينما التسجيلية النقدية، وفيه تكشف عن الأوضاع المهينة التي يعيشها
الفقراء والمهمشين في المجتمع المصري. ويؤكد ريادتها لهذا التيار أن مخرجين
آخرين أخذوا عنها هذا الاتجاه، وأصبح أحد التيارات البارزة في مسار السينما
التسجيلية المصرية.
كان (حصان الطين) عام 1971، أول أفلامها وأول أفلامنا التسجيلية الناقدة لبعض
أوضاعنا الاجتماعية والإنسانية، من خلال الكشف عن معاناة الرجال والنساء
والأطفال في عملهم الشاق داخل قمائن الطوب، يشاركهم حصان في خلط الطين، وفي
نهاية يوم العمل، ما إن تُرفع الغمامة عن عيني الحصان حتى ينطلق بعيدًا عن
صاحبه، خوفا أو تمردًا من الحصان على ظروف العمل الشاقة، وبقدر ما يثير هذا
الموقف من الحصان روح التمرد على العمل، يرمز إلى الأمل في التخلص من هذا العمل
المُضني.
وفي فيلم "أغنية توحة الحزينة" 1972، تكشف لنا عطيات عن معاناة فرقة استعراض
شعبية تقدم فقراتها على الناس في الشوارع والحواري، ويتضمن الفيلم قصيدة تعبر
عن مرماه كتبها عبد الرحمن الأبنودي "الدنيا كورة، والكورة فيها ناس.. قاعدة
تتفرج على ناس.. حزين يا قلبي.. حزين يا قلبي ولا سعيد، والبيت قريب ولا بعيد..
ولا الهنا ليه يا زماني ناس.. والهم ليه ناس،، وناس بتتفرج على ناس.. والدنيا
كورة".
وعندما أتيح لعطيات منحة لدراسة السينما التسجيلية في إنجلترا، بحثت عن الفقراء
وعنهم صنعت فيلم "سوق الكانتو" 1973، عن هؤلاء الذين يعانون من الفقر فيلجئون
إلى شراء الملابس المستعملة من سوق الكانتو. فتكشف بذلك عن الطبقية التي يعاني
منها الفقراء.
وفي "ساندوتش "، 1975، نرى طفلًا يحاول أن يرطب رغيف الخبز الجاف، بكمية من
اللبن يحلبها من ضَرع المعزة، بينما المعزة، التي احتضنها، أثناء الحلب، تسطو
على النصف الآخر من الرغيف، الفيلم تعبير رمزي رفيع عمّا وصل إليه الفقراء من
جوع، ولا يخلو من روح فكاهية ساخرة.
وفي فيلم "التقدم إلى العمق" (1979)، تتحول عطيات من التركيز على معاناة
الفقراء، إلى التأكيد على قدرتهم الإبداعية في مواجهة صعاب الحياة، ويحتشد
الفيلم بوجوه الأطفال التي تنطق بالجمال والأمل على الرغم من عيونهم الحزينة،
كما يؤكد أيضاً فى شاعرية رقيقة على روح التسامح والإخاء بين المسلمين
والمسيحيين في صعيد مصر، الذين يحملون نفس الوجوه، نفس الأسماء، ويعيشون نفس
الأحوال. (تم عمل الفيلم بمنحة من جمعية أبناء الصعيد المسيحية للمدارس
والتنمية الاجتماعية "كاريتاس")
وتعود عطيات إلى موضوعها النقدي الأثير، في فيلم "بحار العطش" (1980)، وفيه نرى
قرية تطل على مساحات واسعة من مياه البحر المالح ولكنها محرومة من أي مصدر
للمياه العذبة الصالحة للشرب، وتحاول النساء العثور عليه من خلال حفر الآبار،
ولكنها لا تقدم لهن غير مياه ملوثة، وينتظرن يوميًا قدوم عربات المياه العذبة
التي يشترونها من أماكن أخرى بعيدة ولكنها لا تكون كافية.
وإذا كانت عطيات في معظم أفلامها تحمل وجهة نظر نقدية للأوضاع التي يعاني منها
الفقراء في المجتمع نجدها في فيلم "الأحلام الممكنة" (1982)، تقدم نموذجًا
إيجابيا لهؤلاء الفقراء الذين يحاولون تجاوز الظروف الضيقة التي تكبل حركتهم
وتفسد حياتهم، بالإصرار على تحقيق أحلامهم التي تحررهم ولو نسبيًا من هذه
الحياة الضيقة. حيث نرى في الفيلم المرأة التي تتحمل شظف العيش ولكنها تصر على
الحاق ابنتها بالتعليم رغم اعتراض الأب المتكرر، وينتهي الفيلم بالابنة تدق
بأصابعها على الآلة الكاتبة داخل أحد الفصول في المدرسة.
وفي فيلم "إيقاع الحياة" (1988) تتجه عطيات لصنع فيلم عن الحياة المصرية في
أربع لوحات مختلفة؛ الأولى "شئون الحياة"، الثانية "من يحافظ على التراث؟"،
الثالثة "بين ضفتي النهر"، والرابعة والأخيرة هي "الميلاد/ الموت / الفرح". ما
نراه من خلال اللوحات الأربعة يحمل وجهة نظرها في مظاهر الحياة المختلفة في
مصر، التي نراها بطيئة رتيبة تتجاوزها الحياة المدنية السريعة، ولعل مشهد
المرأة العجوز التي تحاول ركوب السيارة فتتعثر وتسقط على الأرض، بينما تمضى
السيارة مسرعة دون أن تنتظرها أو ينظر أحد وراءه على من سقطت، هي خلاصة رمزية
لوجهة نظرها لهذه الحياة المصرية. وهو ما يحمل وجهة نظر نقدية لم تتخلّ عنها
عطيات، وإن اتخذت اتجاهٍ آخر، لا يخص الفقراء وحدهم، وإنما يشمل
مظاهر الحياة وطقوسها المختلفة.
وفي فيلم "نساء مسئولات"، 1994، لا تكتفي – عطيات - بنقد أوضاع الفقراء في
المجتمع، ولكنها تقدم ثلاث نماذج إيجابية تقاوم هذه الأوضاع وتتغلب عليها،
نلتقي مع سناء، طلقت مرتين، فتعمل في مصنع لمشغولات الزينة للنساء. ثم نقابل
صابرين الكوافيرة التي تعمل لتعول أباها المريض وأختها المُطلقة التي عادت إلى
الأسرة بأولادها، ثم أم أشرف عاملة الجراج التي هجرها زوجها وتركها وحدها
لأطفالها.
ويأتى فيلم "راوية"، 1995، عن الفتاة المصرية التي استطاعت تحقيق ذاتها رغم
الظروف القاسية، حيث التحقت هي واختها الصغرة بمصنع لصناعة الخزف. واكتشفت من
خلال عملها موهبتها في عمل ابداعات فنية سمحت لها بالاشتراك في معارضٍ دولية.
أما فيلم "أيام الديمقراطية"، 1996، فيكشف عن جهود المرأة المصرية في ان يكون
لها دور فاعل في المجتمع من خلال انتسابها إلى عضوية البرلمان.
ويجمع فيلم "بطلات مصريات"، 1997، بين عشر فقرات إعلانية قصيرة عن محو أمية
البنات والنساء في القرى الريفية البعيدة. الفيلم يؤكد على لسان أحدى النساء
"العلام مالوش سن.. انت بتتعلم وقت ما تحب تتعلم".
لم يكن طريق عطيات الأبنودي – خاصة في أفلامها الأولى - ممهدًا. فقد واجهت
اتهامات كثيرة في مقدمتها الاتهام الجاهز بالإساءة إلى سُمعة مصر، تلك التهمة
التي كانت تُرعب أي فنان أو صاحب رأي مختلف. وأدى ذلك إلى اصطدامها بالكثير من
العقبات وعرقلة عملها أكثر من مرة، ولكنها أصرّت على موقفها رغم كل ما تعانيه
من مقاومة المنافقين المُحيطين بالسُلطة، وقد حُرمت من العمل في التدريس بمعهد
السينما رغم حصولها على الشهادات المطلوبة، وتؤيدها أفلامها التي حصلت على
العديد من الجوائز الدولية. كما أنها لم تنجح في الحصول على أي دعم لأفلامها من
الحكومة، والأصح أنها لم تطلب ذلك أساسًا، واعتمدت على إنشاء شركتها الخاصة
لإنتاج الأفلام، بجوار بعض المعونات التي كانت تتلقاها من بعض مؤسسات المجتمع
المدني.
واستطاعت أن تقدم نموذج للمخرج التقدمي من خلال نظرتها لأحوال المجتمع نظرة
نقدية إلى جانب إبرازها لما تجده من إيجابيات تصل إلى حد البطولة للشخصيات
المصرية العادية. وكانت عطيات الأبنودي هي الايقونة النموذج القدوة في الكفاح
ضد معوقات الحياة والنجاح في تحقيق أحلامها. |