مثلما فعلت مع كتابي السابق عن المخرج اليوناني ثيو
أنجيلوبولوس،
هذا الكتاب أيضاً لا يعتمد على التحليل النقدي لأعمال
المخرج الإيراني الشهير عباس كيارستمي – وهي مهمة جوهرية، أساسية، وضرورية،
لكنني لا أحسن القيام بها – بل يركّز بؤرته، هذا الكتاب، على ترجمة
الحوارات التي أجريت مع هذا المخرج، المستمدة والمجمعة من مصادر مختلفة
ومتعددة، وهي مواد خضعت للإعداد والترتيب والتنظيم، بحيث تقدم نظرة
بانورامية شاملة (أو هكذا تطمح وتحاول) لعالم المخرج الإيراني الفذ، من
وجهة نظره الخاصة. وهي تشتمل على أنشطته الفنية، آرائه، رؤاه، أفكاره،
تأثراته، أساليبه، خلفيته الثقافية، تعدّد طاقاته الإبداعية وتنوّع
اهتماماته وأنشطته الفنية والأدبية، شعريته الطاغية، المحيط المحلي الذي
يتحرك فيه ويسبره بعمق بعين نافذة، فضلاً عن الأبعاد الثقافية والاجتماعية
والسياسية التي تشكّل ركائز أساسية في تجربته الإبداعية.
إضافة إلى الحوارات، يحتوي الكتاب على استعراض لأفلام
المخرج، مع ترجمة لبعض المقالات الملفتة التي كتبها نقاد بارزون، أرى أنها
تسلّط ضوءاً هاماً على جوانب مختلفة ومفيدة من تجربة كيارستمي السينمائية،
الذي يعد واحداً من أهم وأبرز المخرجين في السينما العالمية المعاصرة، ويقر
العديد من النقاد بنبوغ كيارستمي وعظمته كسينمائي متميز، استطاع بفضل
إبداعاته – مع إبداعات سينمائيين إيرانيين لا يقلون أهمية - أن يضع الفيلم
الإيراني على خارطة السينما العالمية، وأن يجعل من حضوره حدثا ثقافيا هاما.
عبر أفلامه الهامة والمتميزة، يسعى
كيارستمي إلى خلق نوع جديد من السينما، سينما لا تعتمد على
حبكة أو أحداث دراماتيكية أو مؤثرات خاصة وحيل بصرية أو
ميزانية ضخمة أو نجوم
محترفين، إنها سينما متقشفة لكن عميقة في الرؤية، تعتمد على
إظهار التناقضات
والمفارقات - الصارخة والكامنة أو المموهة - فيما هي تحتفي
بالحياة اليومية، وتدعو إلى التأمل والتفكير، نائية عن الحالات الوجدانية
الميلودرامية.
كيارستمي – كما يقول الناقد جوف أندرو - فنان لا يحقق
أفلامه للاستهلاك بالمعنى السلبي المعتاد،
لكن يحرّض جمهوره على التفاعل والتفكير والمساءلة، أن يصبح
مشاركاً بفعالية في الفعل الإبداعي، كل أفلامه تقتضي التأويل عبر مستويات
متعددة، وهو يدحض فكرة أن يكون لأعماله معنى واحد ثابت،
يرفض أن
تكون هناك قراءة نهائية للفيلم. إنه يتحاشى النمطية
والمغالاة في التبسيط،
مبتعداً عن الروح التقليدية التي تحكم الأعمال السائدة.