استكمالاً لحديثنا عن فيلم ثيو انجيلوبولوس »الأبد ويوم
واحد« ننشر هنا الجزء الأول من حديث المخرج عن الفيلم وعن
العناصر التي تشكل عالمه
السينمائي.
التخوم، بالنسبة لي، ليست مفاهيم جغرافية، انها ببساطة انقسامات
بين هنا
وهناك، بين الماضي والحاضر. وفي هذا الفيلم، هي مسألة الانقسام بين الحياة
والموت.
رجل يحتضر، يومه الاخير، كيف تقضي يومك
الأخير؟ ما الذي يمكن ان يحدث لنا؟ ماذا سوف
نفعل بالساعات الباقية لنا؟ هل تتأمل الحياة التي عشتها، أم
أنك تسمح لنفسك بأن
تنساق، تنكشف أمام كل المصادفات: تتعقب شخصاً ما، تفتح نافذة، تلتقي بشخص
لا تعرفه،
تفتح نفسك لكل ما يحدث، للمجئ غير المتوقع، للذي لا يرتبط لكن يتضح في
النهاية انه
يرتبط؟ الشيء الملهم للفيلم هو انني ازددت تقدما في السن
والاصدقاء في هذه الايام
لا يكفون عن الرحيل والموت، لقد خطرت لي الفكرة في صباح اليوم الذي علمت
فيه بوفاة
الممثل »الايطالي« جيان ماريا فولونتي الذي توفى في غرفته بالفندق فيما كنا
نصور
فيلم »تحديقة بوليسيس«، لقد وجدته الخادمة فاقداً للحياة
فاستدعتني، وهناك في
الحمام رأيته ممداً، مسنداً رأسه الى الوسادة، كما لو كان نائماً فحسب. كنت
قد
امضيت اليوم السابق معه وكان يبدو سعيداً جداً وهو يعمل في فيلم يشعر تجاهه
بالحماسة، وفي مكان يروق له ومع اشخاص يحبهم، كنا نصور في
موستار بالبوسنة، ثم
عبرنا الحدود الى سليت، ومن هناك انتقلنا بالطائرة الى زغرب ثم الى سكوبيا،
وبعد
ذلك انتقلنا بالباص الى اليونان، ذلك كان اليوم الأخير لجيان فولونتي،
رحلته
الأخيرة، موته صدمنا جميعاً كل العاملين في الفيلم. موته جعلني
اتساءل: كيف سيبدو
الأمر لرجل يعرف بأنه سوف لن يكون موجوداً في اليوم التالي، ولم يبق له غير
يوم
واحد يعيشه؟ كيف يصحو من نومه، ويشرب قهوته؟ اين سيذهب وماذا سيفعل عندما
يواجه ذلك
التخم؟ بعد ذلك، بعد بضعة شهور من التفكير بشأن هذه الخطوط
والمجريات، خطرت لي فكرة
أخرى، الحياة المهشمة التي يعيشها اطفال مهجورون، من ضحايا حرب البلقان،
الذين
التقيت بهم اثناء تحقيق »تحديقة يوليسيس«. كذلك اردت ان افعل شيئاً بشأن
الشاعر
واللغة، متأملاً فكرة هايدجر الذي رأى بأن هويتنا مرتبطة
بإحكام، وعلى نحو لا سبيل
الى الخلاص منه، باللغة الأم ثم عندما ذهبت الى ايطاليا لزيارة تونينو
جويرا »كاتب
السيناريو«، ادركت ان لدينا موضوعاً واحداً فقط وليس ثلاثة كما ظننت، لذا
فقد
أمضينا وقتاً طويلاً ونحن نتناقش ونتجادل. هذا الفيلم بأكمله
عبارة عن رحلة متواصلة
عبر الزمن، عبر الحاضر والماضي، ليس هناك تخوم جلية وواضحة المعالم بين
الواقع
والخيال، التخوم مائعة، رحلة البطل »الكسندر« تنطلق من الواقع، هو ينقذ
الصبي من
براثن منظمة اجرامية متخصصة في بيع الاطفال الى العائلات
الغنية الراغبة في تبني
الاطفال، لكن في موضع معين، الرحلة تصبح داخلية، باطنية، كمثال، عندما يصل
الاثنان
الى الحدود الالبانية، يكون المشهد مرئياً عبر الضباب، ثمة افراد يتكئون
على سياج
من الاسلاك الشائكة بالطبع، الحدود ليست مثلما تبدو عليها في
هذا المشهد، انها ليست
حقيقية، هذه الاحداث والصور تقع فقط في مخيلة البطل، انه تخيل، هذا التخم
المسور
بالأسلاك الشائكة هو التخم الكائن داخل الكسندر نفسه، والصبي يساعده فحسب،
على
مواجهة صراعه الداخلي، هو يعطيه مبرراً للسفر عبر اللحظات
الرئيسية من حياته،
ولتذكر اللحظات السعيدة التي عاشها مع زوجته الراحلة. الزمن، بالنسبة لي،
طفل يلهو
بالأحجار على الشاطئ، شخصيات فيلمي يسافرون عبر الزمن والمكان كما لو ان
الزمن
والمكان لا يوجدان، السؤال الأهم هو: كم سيدوم الغد؟ والاجابة
هي: الأبدية ويوم
واحد، واذا كان محظوظين فلربما نعيش حياتنا وفق صورة المستقبل التي نحملها
معنا
اليوم. في الفيلم يظهر ديونيسيوس سولوموس، شاعر يوناني من القرن التاسع عشر
»1798
- 1857«، وهو يتجول في ارجاء اليونان ويشتري كلمات
لقصائده، في الواقع، هذه القصة
حقيقية الى حد ما، لقد كان سولوموس شاعراً عظيماً، وهو ابن
ارستقراطي من جزر
ايونيا، كان في ذلك الحين متأثراً جداً بالثقافة الايطالية، أما أمه فقد
كانت تعمل
خادمة. أبوه، الذي كان يرغب في اجتثاث جذوره البروليتارية، ارسله الى
ايطاليا وهو
صبي في التاسعة او العاشرة ليدرس في دير، وهناك نشأ وانهى
دروسه، وكان يكتب الشعر
بالايطالية عندما بلغته انباء في العام 1821 عن انتفاضة اليونانيين ضد
المستعمرين
الأتراك الذين حكموا آنذاك شبه جزيرة البلقان، عندئذ استعاد ذكريات طفولته
وصورة
أمه والأغنيات التي اعتادت ان تنشدها له، فقرر ان يعود الى
موطنه ويشارك في النضال
الوطني لكن نظراً لكونه شاعراً، ماذا كان بوسعه ان يفعل غير الكتابة؟ لقد
شعر بان
عليه ان يكتب قصائد ثورية، يرثي من خلالها موت الابطال ويستحضر الصورة
المنسية
للحرية وقد تحولت قصيدته »نشيد الحرية« الى النشيد الوطني
للبلاد، كما كتب قصيدة
طويلة مركبة لكن لم يستطع إكمالها. وبما ان معرفته باللغة اليونانية كانت
محدودة
جداً، فقد مضى متجولات في انحاء البلاد، جامعاً المفردات التي لم يسمح بها
من قبل،
محاولاً ان يعيد اكتشاف لغته، ويدونها في مفكرته. هذه هي قصة
الشاعر الحقيقية اما
فكرة شرائه لكل كلمة جديدة يحصل عليها، فقد كانت من اختراعي والمجاز هنا
واضح اللغة
الام هي بطاقة الهوية الحقيقية الوحيدة وكما قال هايدجر، لغتنا هي بيتنا (او
وطننا)
الوحيد، وكل كلمة تفتح اوباباً جديدة امام الفرد الذي يحرزها لكن للدخول من
ذلك
الباب، عليك ان تدفع ثمناً. كنت دائما ارى الى الكلمات بوصفها طرقاً تتيح
الامكانية
للاتصال والتعبير. الكسندر يحاول ان ينهي قصيدة غير مكتملة من القرن التاسع
عشر
بمفردات يجمعها هنا وهناك، او بالاخرى يشتريها مثلها فعل الشعر
الاصلي ومع كل
اكتشاف يحرزه ، هناك ثمن ينبغي ان يدفعه. لذا فالفيلم هو ايضا نوع من
الحكاية
الرمزية عن الابداع الفني ليس عن امكانية الاتصال فحسب بل ايضا عن الخلاص،
عن
الوسيلة لعبور التخوم. مشهد الباص، في الليل، تحت المطر، في
رحلة عبر تيسالونيك:
هذا المشهد كان مختلفاً تماماً في السيناريو ما تراه هنا على الشاشة هو
ثمرة ارتجال
في الموقع في الاصل، كان من المفترض ان يكون المشهد واقعياً جداً، في
الصورة والصوت
معاً لكن فيما كنت اصور، شعرت ان علي ان انقل هنا احساساً
بالزمن الساكن ولهذا
السبب تغير المشهد الاصلي. اني اصور مثلما اتنفس ولا افرض شيئاً عندما اصور
اني
احاول جاهداً ان امنح للزمن مكاناً وللمكان زمناً واتيح للزمن ان يتنفس
اثناء
التصوير. من اجل تصوير الجزء الاخير من الفيلم، اخترت فيللا
قرب البحر في احد شوارع
ثيسالونيل. في السيتنيات كانت الطرق المشجرة تحول دون رؤيتك للبحر، لكنن
كنت بحاجة
الى البحر، وليس لدي سوى نصف البيت مبنيا عند البحر في اللقطات الاخيرة
تنفتح
النافذة، ومن خلالها نمر حتى الشرفة، حتى ساحة الدار الى ان
نصل الى البحر. كيف
نجعل الكاميرا تمر عبر نافذة في الطابق الثاني؟ كنا بحاجة الى رافعة ضخمة.
احد
العاملين معنا اقترح ان ننفذ ذلك بالطريقة التي يفعلونها في المسرح، اي ان
نقسم
الموقع الى شطرين ونجعل الكاميرا تنسل على قضنان بحيث ينكشف
الموقع حين نمر فقط
وهذا كان يحتاج الى توقيت خارق، والى حوالي 22 شخصاً لتنفيذ المشهد علي نحو
ملائم
الممثل برونو غانز، عندما رأي كل ذلك
قال، لي: »يثو، هذا مشهد صعب حقاً. كيف يفترض
في ان امثل مع هذه الضوضاء؟« فأجبته: »انت الممثل، ولست انا. تخيل ان شيئاً
لا
يحدث«. هناك ثيمات متكررة في افلامي مشاهد الزفاف موجودة في كل افلامي
تقريباً
المظلات تكرر ظهورها منذ فيلمي الاول »اعادة بناء« اللون
الاصفر بدأ منذ »رحلة الى
كيثيرا« حيث كان هناك منظر طبيعي رمادي، وتطلب الامر ان يمر شخص ما في يوم
ماطر،
وكانوا بحاجة الى معطف واق من المطر، فقلت لهم: »اجعلوا المعطف اصفر
اللون«. ومذ
ذاك بقي الاصفر معي. البعض يسألني عما يمثله الاصفر، غير انني
لا اعرف ثمة اشياء
موجودة في افلامي لا استطيع ان افسرها واعلل سبب وجودها احيانا تكون مكتوبة
في
السيناريو، واحياناً تقتضيها عملية التصوير. قد اصور مشهداً واشعر بشئ ما
مفقود
فأضيف شيئاً واصور المشهد ثانية الامر الذي نجحت في فعله طوال
تلك السنوات كمخرج هو
انني امتلكت حرية الكاتب الذي يمزق الصفحة بعد كتابتها ليكتب صفحة جديدة
تلك هي
الحرية العظيمة التي يتمتع بها الانتاج الذي لا يعتمد على ملايين
الدولارات. لقد
انطلقت من موقع اليسار لكنني رأيت الامور تمضى في ذلك الاتجاه
الذي يخون احلام
شبابي.. في النظرية والتطبيق معاً كنت اؤمن بالسياسة الان، فقدت إيماني بها.
(يتبع)
حريدة الأيام
في 9 يناير 2004