يعتبر فيلم ''عشية عيد القديسين
Halloween
''1978
للمخـــــــــرج جـــــــــــــون كاربنتر بداية لموجة مختلفة
من أفلام الشخصيات السايكوباتية، حيث
يتم الاستغناء عن التحليل السيكولوجي، وتفسير الحالة العقلية للقاتل،
لتتخلل البناء الإثاري والتشويقي مشاهد عنف بالغ،
وصار الهجوم يتركز، بمساعدة الماكياج والمؤثرات البصرية والسمعية،
على الجهاز العصبي للمتفرج بتوجيه صدمات متوالية عبر كميات هائلة من الدماء
وجرائم القتل البشعة بمختلف الأدوات والوسائل،
فالقاتل المختل لم
يعد يحتاج إلى دوافع لأفعاله الإجرامية، بل صار
يكتفي باصطياد ضحاياه، الغافلين أو اللامبالين أو المختبئين في
أماكن يسهل كشفها، أو الذين يتصرفون بحماقة وغباء، ليمزّق أجسادهم بآلية وسادية بالغة.
فيلم ''هالووين''
أسّس بنية نموذجية، أو بالأحرى أسّس كليشيهات،
التزمت بها الأفلام اللاحقة على نحو صارم.
منذ هذا الفيلم برز نسل جديد من القاتل المختل
عقلياً:
إنه خارق، يتحرك خارج قوانين الطبيعة والوجود الإنساني،
ذو حضور شيطاني، قادر على الظهور في عدة أماكن في وقت واحد،
خالد حسب الأجزاء المتوالية إذ ما إن تنتهي حياته بالرصاص أو بالأدوات الحادة المميتة حتى
يبعث ثانية في الجزء التالي دون أن
يتأثر بالإصابات، ليرتكب جرائم أخرى بالطرق نفسها،
وليلق المصير ذاته عبر أحداث
يمكن بسهولة التنبؤ بمجرياتها.
ثم
يأتي فيلم ''الجمعة
,''13
وما
يليه من أجزاء متتابعة، ليركّز على العنف الصارخ ويحوّل الشاشة إلى مسلخ
مغمور بالدماء الغزيرة المنبثقة من ضحايا يصعب التعاطف معهم.
القاتل المجنون ذاته،
الذي ينتحل اسماً وهيئة مختلفة، يقتحم المعسكرات الصيفية الغاصة بالمراهقين ليستعرض مهاراته في
القتل. الإيرادات العالية التي حققتها هذه السلسلة من الأفلام أدت إلى
إنتاج العشرات من الأفلام التي تتمحور حول الشخصية السايكوباتية، وتحاكي
البناء والحبكة نفسها، متجاهلة الأبعاد الدرامية والسيكولوجية، معتمدة على المؤثرات والماكياج وحركات الكاميرا
الاستعراضية، مستعينة بممثلين عاديين ومخرجين
يفتقرون إلى الخيال وحس الابتكار،
مع إقحام لقطات جنسية لضمان الرواج التجاري.
السرد في هذه الأفلام مجرد ذريعة لربط سلسلة من الجرائم البشعة. الحبكة
المألوفة، المستهلكة، تظهر مجموعة من المراهقين في
موقع ناءٍ ومعزول أو مهجور، قاتل مختل ومشوّه أو هارب من مصحة عقلية،
حالات متكررة من القتل.
ثمة توجّه آخر ومختلف، أكثر جديّة وطموحاً، لتناول الشخصية السايكوباتية في
السينما، نجده في فيلميْ: ''زوج الأم
Step father
,''1986 ''صمت الحملان''.
هنا
يتم استبعاد عناصر الرعب التقليدية والصدمات المجانية، والتركيز على الدوافع السيكولوجية وانحرافات
النفس البشرية في
أوضاع مدروسة بوعي
وعمق. كما يتسم الفيلمان بخاصيات فنية تعبّر عن الحالات الدرامية، بأدوات
متطورة ومبتكرة،
تحت إدارة مخرج متمكن ومتحكم في
مادته وعناصره السينمائية،
بممثلين قادرين على نقل أعماق الشخصيات بقوة وصدق
وإقناع.
لقد حرصت أفلام الرعب، لسنوات طويلة، على توكيد
- أو إعادة توكيد -
القيم العائلية التقليدية،
والانحياز إلى العائلة الطيبة في مواجهتها مع الشر،
بتصوير انتصارها المحتوم على الآخر الذي يمثّل المنتهك والغازي،
والذي ينوي أن يدمّر قيمها ويحطم وحدتها ويفترس أفرادها.
الرغبة في
المحافظة على العائلة ككيان اجتماعي يوفّر الحماية والأمان والاستقرار للفرد،
جعلت هذه الأفلام تنأى عن استجواب وحدة العائلة والكشف عن مظاهر القمع
والانحراف المتوارية تحت السطح الهادئ والآمن ظاهرياً، وأخذت تروّج للفكرة القائلة بأن مصدر الرعب خارجي
وأجنبي، وأن الخطر يأتي دائماً من الخارج: من المواقع النائية، أو من الفضاء المسكون بقوى الشر،
محاولةً بذلك المحافظة على الصورة البريئة والنقية للعائلة. جاء فيلم
هتشكوك ''سايكو''
ليحطم هذا الوهم ويكسر الصورة الزائفة،
مصوراً العائلة - ربما للمرة الأولى -
كمصدر للرعب..
هذا الكيان الذي
كان عرضة لهجمات شرسة ومتلاحقة من الوحوش صار منتجاً للوحوش والمسوخ.
الشخصيات الشيزوفرينية،
والسايكوباتية (المضطربة عقلياً)، والأطفال المتوحشون، بل وحتى المسيح الدجّال،
هي شخصيات معروضة كنتاج للعائلة.
في
هذا المحيط يتم اختبار المخاوف الأولى للطفولة، الكوابح الدينية والجنسية،
مشاعر الإثم والإحساس بالذنب،
التعرّف على أشكال السلطة في
صورتها الأوليّة.
الفضاء الداخلي
للبيت يصبح مشحوناً بالأسرار والتوترات والمخاوف والمشاعر المنفلتة التي لا
يمكن التحكم فيها والسيطرة عليها.
وعندما
يُنظر إلى العائلة بوصفها عالماً مصغراً
أو نموذجاً
للأمة فإن هذه المظاهر تكتسب أبعاداً اجتماعية وسيكولوجية أشمل،
ويصبح التهديد أعم.
صارت الأفلام تهتم بتصوير الجانب المظلم من الحياة العائلية،
وتبرز بجرأة أشكال الانحرافات المخيفة وانفلات الغرائز البدائية وانبعاث
المسوخ من حضن العائلة. وغالباً ما تنتهي الأفلام بانهيار العائلة كنظام
مؤسس، وبهزيمة تعاليمها وقيمها المتوارثة.
في
سينما الرعب يفقد عالم الأطفال براءته وطهارته المعهودة، ويتحوّل إلى عالم مخيف مأهول بالرغبات المدمرة،
المجنونة، اللاعقلانية. الأطفال هنا يشعرون بخيانة الكبار لهم،
وبأن هؤلاء الكبار
يسعون إلى تلويث براءتهم وتقييد حرياتهم، لذا
يجابهونهم بالتدمير والعنف الدموي..
حتى الأب والأم والأقارب لا
يسلمون من العنف.
أحياناً
يمارس الأطفال القتل كنوع من اللعب، وذلك عندما
يحدث الالتباس بين الوهم والحقيقة.
ربما لا تكون الدوافع مبرّرة،
لكن الضغوط تصبح -
من وجهة نظرهم -
صعبة الاحتمال،
وينظرون إلى أفعالهم كضرب من الدفاع عن النفس.
الرضيع المسخ الذي
يفتك بمن يصادفه، في فيلم ''إنه حي''، هو نتاج العائلة.
إنه الضحية والوحش معاً.
الأب ينكره فيعود من أجل إحراز الاعتراف به..
وبدلاً
من تدمير الوحش، تحاول العائلة حمايته.
في
فيلم ''أطفال القمح''
Children of the
corn
يرتكب الأطفال، بدوافع شيطانية، أبشع أنواع القتل والعنف ضد سكان البلدة.
الشيطان يجد مأواه المثالي في
أجساد الأطفال،
إنهم يصبحون مسكونين به، ومن خلالهم يتجسّد مهدّداً
العائلة ومن ثم العالم..
كما في ''طارد الأرواح الشريرة''.
وفي فيلم
The omen
يكتشف الأب -
السفير الأمريكي
- بأن الطفل الذي يربيه ليس ابنه بل هو ابن الشيطان.
في
الثمانينيات، ومن أجل ترويج الأفلام وجعلها مقبولة لدى الجمهور الشاب،
حاولت سينما الرعب أن تدمج عنصرين متنافرين:
الرعب والفكاهة.
أي إضفاء لمسات هزلية ولحظات دعابة على الأجواء المخيفة والشخصيات المرعبة.
لكن أغلب هذه المحاولات لم تستطع أن تحقق التوازن بين العنصرين نظراً لعدم
تماسك واتساق الأسلوب،
كما أخفقت في
إثارة استجابة محدّدة من المتفرج الذي احتار في
كيفية التعامل مع الفيلم.
هذه الظاهرة (دمج الرعب والفكاهة)
ليست جديدة، بل تعود إلى سنوات الأربعينيات حيث ظهرت الشخصيات المخيفة (دراكيولا،
مخلوق فرانكشتاين، المستذئب، الأشباح)
في مواقف ضاحكة مع نجوم الكوميديا.
لكن تلك الأفلام كانت كوميدية خالصة،
تطوّع الجانب المرعب لصالح الهزلي.
في
فترات متقطعة شاهدنا أفلاماً تتخذ من أجواء وشخصيات الرعب مادةً
للإضحاك، أو تقدم محاكاة ساخرة لتلك الأجواء والشخصيات والحبكات. ما تريد
أفلام الرعب تأكيده هو أن الآخر، المتمثّل في أشكال بشعة ومخيفة، هو دائماً مجاور للفرد،
قريب جداً منه، وربما يوجد بداخله. إنه يسكن الأحلام والكوابيس والدواخل
الأكثر عمقاً وظلمةً.
إنه يمثّل الصورة الأخرى من الذات،
تلك التي
تعكس المخاوف
الوطن
البحرينية
في 3 يونيو 2009
|