لم يتمكن مخرج عربي من اللعب على الحبلين كما فعل داوود عبد السيد في معظم
افلامه. وأعني ب "اللعب على الحبلين" "التورية"، كما اسماها العرب (وإذا ما
أخذناها بمعنى أوسع لا يقف عند "اللعب بالكلمات" وانما اللعب بالنص او
بالعمل الفني ككل)، و"الحسچة" كما أطلق عليها العراقيون، و"الآيروني "Irony
كما دعاها الانجليز، وهي ان تقول شيئاً ولكنك تعني بذلك شيئاً آخر، أكبر
وأكثر تعقيداً وأعمق دلالة. وإذا ما كانت الحقائق والإحصاءات والاستبيانات
ملح العلم والتفكير العلمي، فان هذا "الآيروني" هو سكّر الأدب ومعظم ما هو
فنّي أو متعلّق بالفنون. فلولاه لكان الجبلاوي مجرد عجوز يعيش في قصرٍ
تحيطه حدائق غنّاء؛ ودون كورليوني ليس أكثر من زعيم عصابة، أما الكولونيل
اوريليانو بوينديا فلن يكون أكثر من محارب عنيد أشعل حرباً أهليّة استمرّت
22 عاماً، وقد أنهاها ليتفرغ لصياغة سمكاته الذهبيّة التي ظلّ يذيبها ليصنع
غيرها لما تبقّى من حياته!
الحكاية:
ولم يتجسد ذلك، عند داود عبد السيد ابداً، كما تجسّد في "أرض الخوف"، الذي
يحكي عن بطله يحيى (أحمد زكي)، الذي اضطرّ للعمل كحارس أمني (سكيورتي) في
صالة بليارد بعد أن طُرد من عمله كضابط مباحث بعد اتهامه بقضيّة رشوة
فبركها عليه وكيل وزير الداخليّة الذي ما ان يموت حتّى يرسل مسؤول كبير في
الدولة في طلبه، لينقذه من فراغ حياته القاتل، بأن يوكل له مهمّة مدى
الحياة، بأن يدخل لعالم تجارة المخدّرات لوحده وبجهده الخاص بلا اتصال او
مساعدة من أحد، ليتسنّى للدولة معرفة أسرار وخفايا تجارة المخدّرات
ورجالها، بعمليّة يطلق عليها "أرض الخوف".
يبذل بطل عبد السيد اقصى طاقاته ليتحول من يحيى، ضابط البوليس المفصول
وخرّيج كلّية القانون، الى المعلّم "يحيى أبو دبّورة"، وقد تلقّى الضوء
الأخلاقي الأخضر، لينطلق في صعود خارق وسريع ليصبح واحداً من أكبر تجّار
المخدرات دون أن يتوقّف عن إرسال تقاريره عمّا يجري في "أرض الخوف"، رغم
تعاقب الوزارات وتغيّر البلاد والناس والمسؤولين. فيلاحظ، في تقرير له سنة
1981، بأن "الملاحظ بأن هنالك تجاراً جدد، لا ينطبق عليهم الشكل التقليدي
لمهرّبي المخدرات، بل ان القادمين الجدد يأتون من أنشطة أخرى مشروعة،
ويدخلون المجال من أعلى السلّم وليس من أسفله، وهو ما يحدث لأول مرّة".
ثمّ يطلب مقابلة أحد المسؤولين في لقاء مباشر، فقد مرّت عليه أكثر من عشر
سنوات عندما قبل بالقيام بمهمّته: "فأنا أخاطب وأراسل شخصيّات لا أعرفها،
مُجرّدة، وكأني أكلّم حائطاً أصمّ، لدرجة أنى بتّ أشكّ بأن تقاريري
يتلقّاها أي انسان" ويقترح طريقة الاتصال بنشر اعلان في جريدة الأهرام
يقترح عليهم نصّه. فيأتيه الردّ (بالإعلان بالجريدة) يتصل برقم الهاتف
ويأخذ من الرجل على الطرف الآخر موعداً ليلتقيا ولكن أين؟ في جامع السلطان
حسن؛ وهو جامع فخم، مهيب، شبه فارغ وقديم. يأتيه الرجل ليكون سؤال يحيى
الأول له إن كانت تقاريره تستحق أن يواصل تأدية دوره. فيجيبه الرجل (عبد
الرحمن أبو زهرة) بأنه "غير مخوّل بقول أي شيء" لذلك يقضي يحيى معظم اللقاء
مناجياً ذاته ومُعبّراً عن هواجسها: "أنا ليه صرت هكذا: مجرم وقاتل وخارج
على القانون؟ كلّ اللي كنت برفضه وأحاربه وافقت عليه بقرار واحد؟".
يطرح كلّ أسئلته على الرجل الذي التقاه ولا جواب، لذلك يطلب منه أن يبلّغ
مسؤوليه بطلباته ويأتيه بالرد في اتصال قادم.
تأتي واحدة من انعطافات الفيلم الكبيرة عندما يعرض واحد من "التجّار الجدد"
على يحيى وزملاءه المتاجرة ب "البودرة" عوضاً عن الحشيش، فيواجه برفض
معظمهم، ويكون ذلك السبب في محاولة اغتيالهم جميعاً مع أسرهم عندما كانوا
في اجتماع مفتوح على ساحل جزيرة يونانيّة، يخرج منه يحيى حيّاً وينقذ حياة
أحد زملاءه (حمدي غيث).
ثم تكتمل الاغتيالات لتشمل معظم تجّار الحشيش التقليديين في السوق، فهناك
موجة جديدة، ونوع مختلف من المخدرات يجدر به ان يتسيّد السوق. يضيق يحيى
بذلك ويُقدم على الانتقام من تاجر "البودرة" وثلّة من زملاءه ليفتح عليه
أبواب جهنّم: يُضايقه البوليس، يفتشونه ويهينونه، ويصطادون رجاله الواحد
بعد الآخر. ثم تنقلب عليه الحكومة وتتحفظ على أمواله وممتلكاته، ويلومه
التجّار الآخرون ويخبرونه بان الرجل كان مسنوداً ومدفوعاً ليس من النظام
المصري فقط وإنما هو جزء من منظومة عالميّة مقتدرة!
عندها يطلب لقاء المبعوث الذي يظن بأنهم ارسلوه ليناقش معه المهمة التي
كلفوه بها مرّة أخرى، فيلتقيان بالجامع ذاته ولكن ليكتشف خديعته الكبرى هذه
المرّة: فلم يكن (موسى) أكثر من موظّف في دائرة البريد، وقد عاصر استلام
رسائل يحيى وإيصالها باليد لقذفها من فتحة في باب شقّة حتّى عزّ ل أهلها
وانتقل اليها ساكنون جدد باتوا يرفضون استلامها، فاضطر موسى للاحتفاظ بها
طوال أعوام وأعوام!
وتلك كانت "قنبلة الفيلم" وفيها عشنا ذروته وخيبة بطله!
ما وراء
الحكاية: خيبة أيديولوجيّة!
يُقسّم عبد السيّد فيلمه الى ثلاث محطّات، كلّ محطّة تمثّل بداية حقبة
سياسية مختلفة: فيؤشر لبداية زمن الفيلم ب "القاهرة 1968"، أي بعد عام واحد
من هزيمة حزيران، وفيها نعرف بأنه أقيل بدعوى كيديّة من وكل وزارة
الداخليّة السابق والذي يقرأ نبأ تشييعه بإحدى الجرائد، ويحضر مراسيم تشييع
جنازته التي بدت أكبر بكثير من تشييع رجل دولة سابق، أنه تشييع نظام
بأكمله، هو نظام عبد الناصر الذي ابتلعته الهزيمة.
وبعد التشييع مباشرة نراه وقد توجه الى اجتماع سرّي ومفاجئ، مع ضابط
المخابرات الغامض الذي يعرض عليه المهمّة التي سيقضي حياته في محاولة
إنجازها فيقول له وهو يقشّر برتقالة أمامه وكأنه يُقشر روح يحيى: "المشكلة
الحقيقية يا يحيى، إنك مش حتمثل دور واحد فاسد، ده مش دور على المسرح، دي
حياة. انت حتبقى فاسد فعلاً، وحتبقى تاجر مخدرات فعلاً، بس في أعمق مكان في
عقلك لازم في النهاية تعرف بانك ضابط شرطة. ستخون وتقتل وتسمم المجتمع
وتضرب نار على زمايلك حيطاردك البوليس وتضرب نار على زمايلك".
عندها تمتد يد يحيى ليتناول تفّاحة، ويأخذ قضمه قاسية منها وكأنه يفترسها.
عندها نسمع موسيقى نشيد وطني بصوت عبد الحليم حافظ، يبدأ في أعماقه خافتاً،
ثمّ يعلو، لننتقل الى صورة عبد الحليم ذاته هذه المرّة، والى جانبه صورة
أكبر لمارلين مونرو في دلالة لبداية عهد جديد، سيكون عهد الانفتاح
الساداتي، والذي سيصبح فيه متاجرة السلطة بالمخدّرات أعلى وأسمى أشكال
النضال السرّي، قبل أن يتحوّل الى مجرّد بزنس علني في المرحلة القادمة التي
يؤرّخ لها بعام 1981-أي في زمن حسني مبارك-إذ تُرفع عنه سرّيته ليُصبح
جزءاً من سياسة الدولة بشكل شبه مُعلن، يقوده رجال الأعمال المحميين من
الداخل والخارج، في إشارة الى أنها باتت سياسة عالميّة!
ولأن "المعلّم يحيى أبو دبّورة" ليس مُجرّد معلّم، وانما هو، في الحقيقة
المُخبأة في مؤخرة رأسه، هو الضابط يحيى الذي نذر حياته لتأدية دور المعلّم
ليكشف للسلطات ما يجري في "أرض الخوف"، فأنه يُصفّي مجموعة من التجّار
الجدد، رجال الأعمال الذين اتخذوا من تجارة "البودرة" مهنة يستنفعون منها
من ناحية، ويُخدّرون بها الناس من ناحية أخرى.
لذلك فان خيبة يحيى-من وجهة النظر السياسيّة هذه-عندما يكتشف بأن رسائله لم
تكن تصل، وان "الناس الذين كانوا يتلقّونها عزّلوا" تُصبح خيبة سياسية،
أيديولوجيّة، فقد كان-حاله حال أي مؤدلج سابق، يعرف بأن ما يتاجر به وما
يروّجه هو مجرّد مخدّرات، ولكنه أمام روحه، وفي دخيلة نفسه يعتقد بأنه
مواطن، ضابط، أو مناضل شريف يؤدي دوره لكشف شبكات الفساد الموجهة ضد مجتمعه
وتلك طريقته في النضال ضدّها!
ما وراء
الحكاية: خيبة وجوديّة ودينيّة!
لم يكتفي داود عبد السيّد بمحمولات الفيلم السياسيّة التي بدت أكثر وضوحاً
وتجلّياً من الخيوط الأخرى: الوجوديّة والدينيّة.
فمنذ البداية، منذ أن عرض عليه ضابط المخابرات الغامض المهمّة غير العاديّة
التي أرسل إليها، حتى برزت هذه الخيوط عبر منحه اسم "آدم" في مراسلاته، ثمّ
جاءت موافقته عبر قضمه لتفّاحة آدم التي ستكون إشارة انطلاق لنزوله الى
الأرض: "أرض الخوف" أرضنا!
ولأن ليس هنالك من "آدم" بلا "إبليس"، فان إبليس الفيلم كان المقدّم عُمر
الذي تمّ ترفيعه في جدول الترقيات مع نهاية عصر عبد الناصر ومجيء عصر
الانفتاح. والذي يعرف الحقيقة كلّها، ومنها حقيقة مهمّة يحيى، ولكنه
يتجاهلها، حتّى أنه في مواجهتهما الأخيرة، يخبره يحيى بأنك "مثل إبليس الذي
رفض أن يسجد لآدم، وأبى وأستكبر".
وقد عزّز عبد السيّد رؤيته هذه عندما جعل "آدم" يخاطب "موسى" في رسائله،
ليكتشف في النهاية بأن "موسى" آخر، "عبد الرحمن أبو زهرة" الموظّف البسيط
في إدارة البريد، هو من كان يتلقّاها ويتحفّظ عليها بعدما تغيّر سكنة
الشقّة التي كانت تُرسل التقارير اليها ورفض السكّان الجدد استلامها!
وكلاهما كان "موسى" كناية عن التأخر بالنطق بالحقيقة التي يعرفانها جيّداً
حالهما في ذلك حال النبي موسى الذي عُرف بتأخره وتعثّره بالنطق حتّى موعد
متأخر. وتأخرهما بالنطق وقول الحقيقة كلّف "آدم" هنا تضييع حياته بأكملها
وهو يعيش وهمه بأنه قد نذر حياته وقتل وأجرم وتاجر بالمخدّرات بإيمان صوفي
بأنه على حق، وأن مهمّته لم تكن لها أبعاد أيديولوجيّة فقط، وإنما أبعاد
دينيّة، مُستندة على إيمانه المُطلق بأنه ضحّى بحياته، وبقدرته على أن يُحب
وأن ينحب من أجل تحقيقها، وله في الحبّ تجربتان: بنت البلد التي أنجب منها
ابنه الوحيد دون أن يتمكّن من حبّها؛ و "فريد" المهندسة المعماريّة خرّيجة
فرنسا التي تترك باب شقّتها مفتوحاً دائماً، والتي جاءت مُحمّلة بكل رموز
الحداثة الأوروبية مُضمّخة بحس شرقي وصوفي كبير، والتي أحبّها كثيراً
ولكنها عجزت عن مبادلته هذا الحب لكونه تاجر مخدّرات، ولم تعُد اليه إلا
بعدما تحلّل من حياته السابقة في آخر الفيلم.
فجاءت خيبته، في النهاية، على كلّ الأصعدة وبمختلف المستويات، خيبة كاملة
ومُطلقة تُذكرنا بخيباتنا مع صعود وهيمنة ومن ثمّ اندحار مختلف
الأيديولوجيّات في دورة كاملة باتت تشغل جيلاً كاملاً أو أكثر، تلتهم حياة
معظم ضحاياها، تبدأ بإيمانهم ومن ثمّ تقديم فروض طاعتهم وتضحياتهم، وصولاً
الى انكشاف خوائها، نفاقها، وتفتتها واندحارها تمهيداً لزوالها لتفتح
الطريق واسعاً أمام هيمنة أيديولوجيا جديدة.
وأصدق مثال على ذلك ما تمّ تداوله في أوائل التسعينات عن "عصر انهيار
الأيديولوجيّات" الذي هلّل له الكثيرون عشيّة انهيار جدار برلين وتفكّك
الاتحاد السوفيتي، لتعمّ من بعده "الأيديولوجيّات الدينيّة" بمختلف
أشكالها، من جهة، ترافقها أيديولوجيا مضادّة هي "أيديولوجيا الحرب على
الإرهاب" التي ادعت مكافحته لو تقُد إلا لانتشاره وتوسيعه. ولن يكون آخرها
بالطبع، انكشاف دور "أيديولوجيا الليبراليّة الجديدة" التي هيمنت في
الأربعين سنة الماضية!
تقاطع فيلم "أرض الخوف" واستقى بعض شخصيّاته وأجوائه من أفلام أميركيّة
عديدة، فتارة يذكّرنا ب "دوني براسكو"، وأخرى ب "العرّاب"، ومرّة بفيلم "سكار
فيس" وأخرى ب "كازينو" مارتن سكورسيزي، إلا أن لا أحد يمكن أن يشكّ بأن
ثيمة الفيلم، والمعنى الموازي، المجاور، المعنى العميق يبقى ملك لداود عبد
السيّد وحده. عبد السيّد الذي غرف مادّته من عدّة أفلام عالميّة وعملاقة،
ليصنع منها خلطة خاصّة به، هي خلطته، تركيبته التي لا ولن يُنازعها عليه
أحد ليخلق فيلماً عربيّاً متفرّداً ها نحن نستعيده بلذّة ونحاول ان نغور في
أعماقه بعد تسعة أعوام من عرضه!
*كاتب وناقد
عراقي
|