ربما ستتذكر قصيدة أمل دنقل (ضد من؟)
وأنت تشاهد فيلم "اختفاء"«كل هذا البياض يذكرني بالكفن»، فأحداث الفيلم
الذي أخرجه «بودفين كول»، وعرض ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة
السينمائي الـ39، تدور في منطقة جليدية بشمال النرويج، منطقة بيضاء تكسوها
الثلوج، يغمر البياض فيها كل شيء، تتحول فيها الغابات إلى جذوع أشجار
مغروسة في مساحات بيضاء.
في المقابل هناك سواد خفي يخيم على
أرواح أبطال الفيلم، سواد بمعناه المجازي، وسواد آخر بمعناه الحسي، منذ
المشهد الافتتاحي لطفلة تعزف على بيانو، ربما هي الأم التي تروي حكايتها
بمعزوفة على البيانو، سواد يحيط بها، وبالتالي بالحالة النفسية لشخصيات
الفيلم... كل هذا البياض والسواد يدخلان يدفعان بك في حالة شعور متأرجحة
بين الرحيل الحتمي والحياة الباردة، وفي خضم ذلك يجد المشاهد الدفء في
علاقة الحب والتآزر العاطفي الأسري (الظاهري) الذي يجمع البطلة «روز»
الممثلة «ريفكالوديزين» بوالدتها «إلسي دي براو»، أو بالأصح الكراهية
الخفية المتأجج داخلهما.
دراما نفسية عميقة لا يريدها المخرج أن
تكون مباشرة أو عابرة، إنما حققها في سرد متأن ليتسنى للمشاهد أن يكتشف
ويحلل ويتعمق، ولينساب الفيلم بما يخاطب الوجدان، و يسرقه إلى زاوية التأمل
في تفاصيل المشاعر الداخلية لكل منهم: عشق الأم للموسيقى وصرامة شخصيتها.
انغماس الطفل ـ (أخيها غير الشقيق الطفل «ماركس هانسين») ـ في الأصوات
المحيطة به. ثم بقايا الحب القديم لحبيبها السابق.
أزمة سيدة مقبلة على الموت اختارت
نهاية حياتها بالقرب من أسرتها، وعزمت على وداعهم بالتصالح معهم قبل
الاختفاء الأبدي... إنها الحياة في الأصوات، وفي التفاصيل المهملة، والحياة
في البياض الفاتر المحموم والمتأزم، بياض الأرواح التي يتخللها السواد دون
إدارة منها، أو في غفلة عنها... تلك الأزمة التي نعيها عندما نعرف أن
عزيزاً لنا على وشك المغادرة، جسدتها الأم والأخ عندما علما بمرض روز.
لا أحداث مثيرة، فليس مطلوب أن تكون
هناك أحداث مثيرة، إنه فيلم للغوص في المشاعر والأحاسيس المدفونة والمشحونة
أيضًا بقدر كبير من المخبأ في الدواخل، بما دفع كاتب السيناريو «جولين
رامان» لدراسة مونتاج متقن، يتنقل أحيانا بين صور فوتوغرافية (فوتومونتاج)،
ولقطات قريبة وأخرى بعيدة ملتقطة بحساسية بصرية عالية، تجعل للإيقاع البطيء
قيمة فنية تنعكس على جاذبية التلقي، ولتعمل الموسيقى الحالمة مع أصوات
الطبيعة والريح ولهاث الكلاب على اكسابه بعدًا رومنسيًا من نوع خاص، يخلق
انتباهًا كاملاً، وبالتالي تزيح شعور الملل أثناء الفرجة، بل تدخله في
ثنايا قصة انسانية مشغولة بالتلميح والإيحاء والكلام البسيط المعبر.
تلك التداعيات بعد إفصاح روز لحبيبها
القديم الذي تركته ورحلت عنه، عن إصابتها بمرض قاتل جاء في لحظة غير
متوقعة، جاء بعد لقاء جسدي حميم، استمر لدقائق، ودخل المشاهد معه في حالة
شعورية خاصة، وترتب على هذا التصريح أن أصبح المتلقي لا يدري ماذا سيدور من
حوار في المشاهد القادمة، فخلق ذلك حالة ترقب، تكررت عندما أخبرت البطلة
والدتها بأنها لن تتناول العلاج (ربما الكيماوي لعلاج السرطان)، وهو أيضاً
افصاح بعد مشهد غير متوقع، اجتمع فيه عدد من الصيادين على سلخ جاموس جليدي
«بافلو».
في خلفية قصة روز نعرف أنها اختارت،
منذ سنوات، أن تعيش مع والدها تاركة الأم في شمال النرويج حيث الثلوج
والعلاقة المتوترة وعدم الانسجام معها، ولكنها فيما بعد ستتفهم الأم عدم
رغبة ابنتها في الحياة بالمرض، وأنها جاءت لوداعهما في أيام سعيدة أخيرة،
ولأن الأم لم تحبها أبدًا فإنه لم يعني لها وداعها شيئًا. في سياق الفيلم
أيضًا نلمس محبة أخيها الذي عبّر عن حزنه وسخطه واعتراضه على اصابتها
بالمرض بطريقة مؤثرة جدًا تكشف عن قدرة الطفل الأدائية، وتكشف أيضًا عن
تمكن المخرج من إدارة ملكات ممثليه. محبة الطفل لأخته تجلت عندما أطلعها
على سره الجميل، على ما توصل إليه من تسجيل أصوات الطبيعة في الكهف
الجليدي.
ولكن علاقتها بأخيها فيه ما يثير
التساؤلات والاستغراب، فهي لا تتحرج من الظهور أمامه عارية، بل أنها وهي في
حمام الساونا تجعله يمسك جسدها، نهدها، وفي مشهد آخر تقبله قبلة عشاق على
شفاهه، ولا تذهب في علاقتها معه إلى أكثر من ذلك، فهو لا يزال طفلا، وربما
أرادت أن تتأكد من طبيعية مشاعره في الحب، قبل أن تفارقه، أو أن تعلمه كيف
له أن يستمتع بالاحساس عبر الجسد، أسوة بما علمها إياه في تأمل الأصوات.
سألته: هل سبق لك أن قبلت فتاة؟ يجيبها: ربما، ولكنها تكاشفه بأنها تعرف
أنه قبل ابنة الجيران. هذا الحوار المقتضب يبين لنا عدم شذوذية العلاقة،
إنما هو حب أخت راحلة لأخيها الصغير، فيه بعض التجاوز عن لو أنهما كانا
أشقاء. ربما يكون الأمر كذلك، وفي كل حال تركت تلك العلاقة تساؤلا حائرًا،
وفسحة للتفكير في غير المعتاد.
تستلقي روز على عربة زلاجة جليدية،
بينما تجرها الكلاب مهرولة بأقسى سرعتها، وتقف والدتها على طرف الزلاجة
واجمة حادة الملامح، وتنطلق الكلاب، تركض ثم تركض، وتلهث للوصول إلى نقطة
لا نعلمها، وفجأة توقف الأم الكلاب وتترجل روز عن الزلاجة، وتمشي نحو
البياض، تمشي والكاميرا ترصدها من خلفها، تمشي حتى الاختفاء... ينتهي
الفيلم وثمة لقطتان أخيرتان، في ثوان قليلة، ليس لهما حاجة أو إضافة، مما
يمثلان عبئًا على الانطباع الأخير الذي يخرج به المشاهد.
*كاتب وناقد
سعودي
|