يكرم مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة في دورته الرابعة (10
ـ 16 فبراير 2020) المونتيرة المصرية رحمة منتصر، وهي تنتمي
إلى جيل المونتيرات الرائدات في السينما المصرية، وارتبط اسمها
بمونتاج عدد من أبرز الأفلام التسجيلية والروائية المصرية
لمخرجين من أجيال مختلفة، ولا تزال تواصل عملها أستاذا في
المعهد العالي للسينما بأكاديمية الفنون في القاهرة، وكانت من
أوائل خرّيجيه الذين برز منهم مخرجون شكلوا تيار الواقعية
الجديدة في بدايات الثمانينات، ومنهم خيري بشارة وداود
عبدالسيد وعلي بدرخان، وقد تخرج الثلاثة عام 1967.
لسبب ربما يخص الالتزام بالصرامة الحَرْفية للتعريب، يسمّى
«المونتاج»
في المغرب
«التوليف». في المغرب أيضا يتخفّفون من همزة القطع الساكنة،
ويستبدلون بها همزة وصل، فيطيرون بالحرف منزوع الرأس عاليا إلى
نغمة الجواب، هكذا: «لا باس»، «ياتِيكم بضياء»، «ويامُرون
الناس»، «لكيلا تاسَوْا على ما فاتكم»، بدلا من: «لا بأس»،
«يأتيكم بضياء»، «ويأمُرون الناس»، «لكيلا تأسَوْا على ما
فاتكم». وفقا لهذا القياس يكون «مولّف الفيلم»، وهو المونتير،
أقرب عمليا إلى «مؤلف الفيلم»؛ فهو آخر من يتعامل مع المادة
المصورة، ليصوغ في الشريط النهائي رؤية المخرج.
وبمشاهدة الأفلام يمكن التفرقة بين مولّف حِرَفي مهمته تركيب
مشاهد الفيلم وتنفيذ السيناريو، ومونتير فنان يتفاعل بحساسية
مع الفيلم، ويصنع له إيقاعا يخلّصه من أي شيء يعوق تدفقه، فلا
تتلكأ العين في المشهد الواحد، ولا تتعثر في مطبّات بصرية بين
مشهد وآخر.
من مدرسة المونتاج جاء اثنان من رواد الإخراج في السينما
المصرية، هما صلاح أبو سيف (1915 ـ 1996) وكمال الشيخ (1919 ـ
2004)، وكلاهما عمل مونتيرا قبل التفرغ للإخراج. ومنحتهما
سنوات المونتاج قدرة، ولعلها جرأة، على الاستغناء عما يمكن ـ
أو ما يجب ـ أن يُستغنى عنه، وأن يكون الفيلم «مشدودا» خاليا
من الترهل، محققا درجة توتّر عالية لا تنتهي مع كلمة
«النهاية». أبو سيف الذي ألحقه نيازي مصطفى بالعمل في ستوديو
مصر كان يعتبر المونتاج «لغة السينما.. أفضل مدرسة تعلمت فيها
فن الإخراج.. يستطيع المونتير أن يحلل ويفهم أساليب المخرجين،
ويرسم خطوط صعود وهبوط إبداعهم.. وعندما وقفت وراء الكاميرا
مخرجا.. وجدتُ ما تعلمتُ أمامي». وأما كمال الشيخ ـ الذي التحق
بالمونتاج عام 1938 تحت إشراف نيازي مصطفى أيضا ـ فهو مدين لفن
المونتاج الذي مارسه نحو 14 سنة جعلته يدرك «عيوب أفلامنا،
وتحاشيت الوقوع فيها، عندما أصبحت مخرجا». وقال الشيخ للناقد
السينمائي كمال رمزي إن حرص المخرجين على الاستعانة به مونتيرا
«يرجع إلى اهتمامي بدقائق التفاصيل: علاقة كل مشهد بالمشهد
السابق واللاحق. اللقطة التي ينتهي عندها المشهد واللقطة التي
يفتتح بها المشهد التالي. ترتيب المشاهد بهدف العمل على تماسك
الفيلم دراميا... حتى بعد تفرغي للإخراج، تمسك أنور وجدي بأن
أقوم بمونتاج جميع أفلامه».
أما كمال أبو العلا (1923 ـ 2008) فآثر التفرغ للمونتاج، اكتفى
به ولم يتخذه جسرا إلى الإخراج.
وإلى مدرسة الإخلاص للمونتاج تنتمي رحمة منتصر التي عملت
مونتيرا مساعدا لكمال أبو العلا في عدة أفلام أبرزها
«المومياء» لشادي عبد السلام؛ وقامت بمونتاج معظم الأفلام
التسجيلية لشادي عبد السلام وأفلام لمخرجين آخرين، قبل أن
يرتبط اسمها لدى مشاهدي الأفلام الروائية الطويلة بمونتاج ستة
أفلام تستقر في الذاكرة، وتحتفظ بمكانة تترسخ مع الوقت ضمن
كلاسيكيات السينما المصرية، وهي: «يوم مرّ.. يوم حلو» 1988
و«إشارة مرور» 1996، وكلاهما لخيري بشارة، و«سرقات صيفية» 1988
ليسري نصر الله، و«شحاتين ونبلاء» 1991 لأسماء البكري، و«البحث
عن سيد مرزوق» 1991 لداود عبد السيد، و«المواطن مصري» 1991
لصلاح أبو سيف.
بعد مونتاج نحو 25 عملا تسجيليا يليق بطموحها وذائقتها، جاء
اختيار رحمة منتصر للمشاركة في مونتاج أفلام روائية طويلة،
مختارة بعناية، قليلة العدد عالية القيمة الفنية؛ فلا يُرضي
المعتز بمقعد «الأستاذ» إلا تجربة فيلم يستهويه، شُغْل غَناوة،
تلبية لروح الهواية، واستفزازا لقدرات الخيال الحرّ، وليس
التنفيذ النصّي لمناهج الاحتراف.
بمنطق الهواية، وغواية اللعب، يمكن أن نرى فيلمي «يوم مرّ..
يوم حلو» و«إشارة مرور»، من خلال مونتاج رحمة منتصر. كلا
الفيلمين قصة قصيرة طالت قليلا إلى زمن الفيلم الطويل. يتمتع
خيري بشارة بروح كاتب قصة قصيرة، يقتنص اللحظة، وتتجاوب رحمة
منتصر مع هذه الروح المشاغبة، بتقطيع المشهد ولو قصيرا إلى
لقطات بانورامية ومتوسطة ومقربة. ويستمتع المخرج باللعبة، ثقة
منه بأن فنانة المونتاج أشبه بلاعب سيرك تبدو حركاته عفوية،
ولكنها محسوبة بدقة، بوصول اللاعب معلقا في الهواء بالضبط حين
تكون الحلقة مارة أمام يديه، فيتلقفها وإلا يقع ويدق عنقه.
وهذا التقطيع يمنح المشهد إيقاعا لاهثا، فيه رشاقة وإشباع معا.
في فيلم «إشارة مرور» تحدٍّ آخر، فالأحداث تقع في ليلة واحدة،
حول ميدان طلعت حرب بوسط القاهرة، والبطولة جماعية تناسب زحام
منطقة «وسط البلد»، حين يتعطل المرور وتتوقف حركة السير،
انتظارا لمرور موكب رسمي، فيلتقي مواطنون من طبقات وخلفيات
مختلفة ما كان لهم أن يلتقوا إلا في مثل هذا الظرف القاهر،
ويقضون ليلة لا يشعر معها مشاهد الفيلم بأي ملل، وإنما يدفعه
الإيقاع إلى القفز وراء الشخصيات واستعجال المصائر، في مسرح
محدود تتنازعه العتمة والأضواء، والمطر وانفجار ماسورة مياه،
ومشاجرات نسوية.
في هذا الميدان تتوازى وتتقاطع خطوات لاعبيْ سيرك، موظف يصدم
سيارة آخر قبل توقف الحركة، ممرضة تحلم بالشهرة كمطربة، عامل
بناء تتعثر خطوبته لفتاة فقيرة أبوها رجل المرور المغلوب على
أمره في الميدان، ضابط شرطة كبير قليل الحيلة يطالب المتذمرين
من تعطيل المرور بالصبر، شاب يكلف بحمل قنبلة لاستهداف الموكب
فتنفجر في منزل عجوز وحفيدتها، فتاة ليل تقدمت بها السن ولا
يأبه لها أحد، رجل أعمال يتبرم من خسارته لتوقف حركة المرور
وتتصارع عليه زوجته وعشيقته، عازف ترومبيت وحيد تنتهي علاقته
بامرأة بائسة في حياتها الزوجية فتودعه متوجهة إلى المطار،
مدرس كبير السن لا يهنأ بمولوده لعجزه عن الوصول بزوجته
الموشكة على الولادة إلى مستشفى ثم تلد في الميدان، طالب جامعي
يعجب ببائعة في محل فيتزوجان وليس معه مال إلا ما يشتري به
حزمة من الصحف يفترشانها على سطح بناية.
كل هذه التفاصيل على خلفية مباراة لكرة القدم يذيعها
التلفزيون، ويتابعها مواطنون في قهوة شعبية، مع الممرضة
والعامل الشهم الذي تمكن من إنقاذ المدرس اليائس حين أشعل
النار في نفسه. وفي القهوة يلحق بهم رجل الأعمال الحائر، برفقة
الضابط الكبير. بضع ساعات مزدحمة بالحياة، تزخر بشجارات، إنهاء
علاقات حميمة وبدء أخرى، فكّ خطوبة وفراق وزواج وولادة، فقراء
ينجذبون إلى أشباههم، والثروة دائما تمشي بمحاذاة السلطة وفي
حمايتها وكلاهما تفيد الأخرى. تفاصيل كثيرة تكفي لإغراق الفيلم
وتشتيت المشاهد، ولكن المونتاج المتوازي، بحيوية وإشباع، يجيد
تقديم كل شخصية بإيجاز، بملامحها النفسية والجسدية، بما كانته
وما صارت إليه.
الجيل الأول من فناني المونتاج لم ينل حظه من التعليم الجامعي،
أكسبتهم التجارب العملية خبرة عوّضت عدم انتظامهم في دراسة
أكاديمية، على العكس من الجيل الذي حظي بمثل هذه الدراسة، ومن
رموزه أحمد متولي وعادل منير، وإلى هذا الجيل تنتمي
رحمة منتصر التي
تخرجت في المعهد العالي للسينما بالقاهرة (قسم المونتاج) عام
1965، ولا تزال تعمل في المعهد نفسه أستاذة لفن المونتاج،
وتشرف على
ورشة المونتاج، وعلى مشاريع تخرج الطلبة منذ عام 1968 حتى
الآن. كما قامت بتدريس المونتاج بمعهد التلفزيون وقصر السينما
والمركز الثقافي الفرنسي بالقاهرة. |