يضمن اسم المخرج العالمي "توم هوبر" مشاهدة ممتعة،
وثرية في تحريكها لذهن ومشاعر جمهوره، لا سيما في
انتقائه لسير ذاتية ملهمة ومثيرة للجدل، كاختياره
الجريء لتقديم قصة إنسانية مؤثرة وجدلية من خلال فيلمه
الشهير "الفتاة الدانماركية" عام 2015
تدور أحداث الفيلم حول قصة حقيقية.. عن "ليلي إلب" التي
اعتبرت فيما بعد رمزا.. ورائدة من رواد التحول الجنسي؛
باعتباره حلا لا مفر منه للحصول على وعاء جسدي يلائم الهوية..
يقع الحدث المحرك للأحداث في الفيلم.. لحظة غياب الموديل
الخاصة بالرسامة الدنماركية "جيردا فيجنر" (التي تؤدي دورها
الممثلة السويدية) أليسيا بيكاندر
والتي كانت تطلق عليها اسم "ليلي" فتلجأ جيردا لاستخدام زوجها
الرسام "إينار فيجنر" (الذي يؤدي دوره الممثل الإنجليزي إيدي
ريدماين) كبديل للموديل الخاصة بها بشكل مؤقت واضطراري..
يشعر إينار بدهشة وحيرة.. لحظة جلوسه وتصرفه كامرأة.. في بادئ
الأمر.. ثم تتحول المسألة بالنسبة للزوجين كلعبة لا تخلو من
إثارة وإلهام..
تحقق اللوحة التي ترسمها جيردا فيجنر ببطلها إينار فيجنر في
ثوب ليلي إلب.. ولم يتوقع أحد أن بطل اللوحة إينار فيجنر.. رغم
أنه كان رساما ناجحا ومعروفا بدرجة ما.. لكن قدرته على تجسيد
الأنثى لم تدع مجالا للشك.. بأن بطل اللوحة شخصا غير ليلي..
يلاحظ إينار ميوله الأنثوية.. وتأخذ لعبة ليلي الموديل بالنسبة
له دورا ملهما وجادا لمعرفة حقيقة الشخص الكامن بداخله..
تتوالى اللوحات التي تعتمد فيها جيردا فيجنر على إينار بصيغته
الأنثوية..
وتتصاعد الحاسة الأنثوية لدى إينار حتى يفضل ليلي على إينار..
يهمل الرسم.. وتكبر اللعبة شيئا فشيئا حتى خروجه للناس في صورة
وثياب ليلي الموديل الخاصة بجيردا فيجنر..
تشعر جيردا بالخطر.. لحظة رؤيتها لإينار بصيغته الأنثوية
مستسلما لقبلة رجل ما بشغف..
لا سيما أن إينار كان قد ابتعد جسديا إلى حد كبير عن زوجته
جيردا..
تحاول جيردا استعادة زوجها.. الضائع بين إينار وليلي.. بين
الذكورة والأنوثة.. بين ظهوره الاضطراري كرجل أمام الناس
ورغبته الحقيقية في التصرف والظهور كأنثى ..
إينار أيضا يحاول العودة لرجولته.. لكن اكتشافه لذاته الأنثوية
الكامنة بداخله تجذبه أكثر.. وأكثر.. حتى ينفلت منه تماما قرار
الرجوع لذكورته.. ويعيش الذكورة بوعاء خارجي فقط ..
إشكالية افتقاد الهوية.. والعيش كمسخ.. وضرورة البحث عن الذات
وحقيقتها.. أحد أهم القضايا التي يطرحها الفيلم.. وبالتالي لا
يمكن حصر الفيلم في نقل سيرة ذاتية لشاشة السينما فقط..
فالقضية الأهم هي صراع البحث عن الهوية..
يفشل الطب في إرجاع إينار للعيش كرجل.. وثمة مشهد بديع ومؤثر
في الفيلم.. يوضح أن العلم ذاته (المتجسد في الطب هنا) يقف
حائرا.. وربما مضادا للطبيعة البشرية..
ففي اللحظة التي يحاول فيها إينار إقناع الطبيب بأنه لم يعد
يستطيع العيش كذكر.. وأن اللعبة الحقيقية كانت إينار.. وليست
ليلي؛ التي وجد حقيقته الكاملة فيها..
كان الطبيب يبدي لإينار الاقتناع والتصديق.. في حين كان يضمر
قرار وضعه في مستشفى للأمراض العقلية..
مشهد هروب إينار من النافذة لحظة اكتشافه لعبة الطبيب.. من
أروع وأكثر مشاهد الفيلم تأثيرا..
ومن المشاهد التي قد لا بنساها مشاهد هذا الفيلم أيضا.. مشهد
تعرض إينار للتحرش في الشارع.. إذ يسير بصورة ذكورية وطبيعة
أنثوية.. تثير في نفوس المتحرشين تتبعه.. ومحاولة اكتشاف
حقيقته.. وتعرضه للضرب المبرح من قبل المتحرشين لحظة محاولته
للهروب.. ونعته بألفاظ جارحة..
هذا المشهد البديع يلخص بكثافة.. عقدة عدم قبول الآخر.. وما
يتعرض له الأقليات والمختلفون لمعاناة جمة في كل العصور..
ولعل من أعظم مفارقات الفيلم.. أن الشخصية الداعمة والمتعاطفة
الوحيدة مع إينار.. هي زوجته جيردا فيجنر؛ فرغم تضررها من
ابتعاده عنه جسديا.. وخطر افتقادها لزوجها الذي اختارته عن حب
وقناعة.. قررت الانحياز له إنسانيا.. والتضامن معه فيما يعيشه
من حيرة.. ورغبة مشروعة في الحصول على هوية حقيقية..
تصل جيردا وإينار إلى طبيب أجرى عملية تحويل جنسي من قبل..
ووافق على تحويل إينار إلى أنثى كاملة عبر عمليتين جراحيتين..
الأولى لاستئصال العضو الذكري.. والثانية لزرع رحم.. ولتصبح به
ليلي إلب أنثى كاملة قادرة على الحياة كامرأة في العلن.. وربما
الحصول على الأمومة في يوم ما..
رغم تألم جيردا من افتقاد إينار الرجل إلا أنها تظل محبة
وداعمة للشخص الذي عشقته أيا كان اسم الوعاء الذي يحمل روحه..
فتعبر في تفانيها الإنساني عن العشق الخالص..
تموت "ليلي إلب" بعد عملية زرع الرحم.. لكنها تحصد لذة قصيرة
بالحصول على هويتها الحقيقية التي اختبأت لسنوات خلف وعاء جسدي
ذكوري زائف..
الفيلم رغم نهايته المأساوية.. بديعا بكل عناصره المتقنة..
وآداء إيدي ريدماين الذي يستطيع ببراعته المتضافرة ببراعة
المخرج توم هوبر على تجسيد الحيرة التي عاشتها الشخصية
الحقيقية.. بدرجة تجعل المشاهد يحتار من فرط تصديقه لآداء إيدي
ريدماين ويتساءل إن كان إيدي امرأة أم رجلا حقا؟!
وكنت أرى أن إيدي ريدماين يستحق أوسكار أفضل ممثل عن آدائه
المتقن لدوري إينار.. وليلي إلب..
لكن الأوسكار لم تضل الطريق أيضا حين توجت بها الممثلة
السويدية العظيمة أليسيا بيكاندر.. عن تجسيدها ببراعة لجيردا
فيجنر..
"ويظل
فيلم الفتاة الدانماركية" للمخرج توم هوبر من أعظم الأفلام
العالمية.. التي تستحق المشاهدة والتأمل مرات ومرات...