غالباً القصص المستلّة من واقع حقيقي نجد فيها ذلك
البعد الغرائبي العميق والشيّق الذي يتفوق على الواقع
نفسه، لذلك برع الكاتب الكولمبي جابرييل جارسيا ماركيز
، وغيره من كتاب أمريكا اللاتينية، في إلتقاط مثل هذه
القصص التي تحدث في حياتنا العادية ولا نشعر بها أو
نتأملها إلا إذا الفن أبرزها.
فيلم «حد الطار» للمخرج الشاب عبدالعزيزي الشلاحي، والذي عرض
مساء أمس ضمن مسابقة "آفاق السينما العربية" في مهرجان القاهرة
السينمائي الدولي الحالي. بتنسيق واختيار الناقد المصري الرزين
رامي عبدالرازق، يحيلنا إلى هذا العالم المباغت الذي نتحرك فيه
ولا نأخذ بالنا منه.
نعم، هي الواقعية الغرائبية بعينها، لأن الواقع أكثر مفاجأة
وصدمة من الخيال العقلي المؤطر والمفبرك لإدهاشنا، وقد ينجح
ذلك الخيال أحياناً، لكنه ذلك النجاح الذي لا يحمل روحاً ذات
مصداقية تستمدها من الحقيقة، وهي أيضاً بلا تأثير مستمر.
قصة حقيقية
أحداث فيلم «حد الطار» مستوحاة من قصة وأحداث حقيقية، حدثت
أمام وعلى مشهد من عيني المخرج عبدالعزيز الشلاحي، ولهذا نجد
فيها تلك الغرابة المجسدة لقصة حب تقع بين إبن سيّاف (منفذ حكم
الاعدام بالسيف) وبين طقّاقة (مطربة أفراح شعبية تستخدم الطار
أثناء غنائها)، شخوص وأبطال غرائبيون لا يمكن للخيال أن ينحتهم
بهذه الفنتازيا القدرية، وإن فعل يكون ممجوجاً ومبالغاً فيه ،
ربما.
لذلك لامس المخرج الشاب هذا التناقض المحيّر في الواقع ليسبغه
على عالم التغيرات الاجتماعية التي يعيشها المجتمع الراهن. فلو
لاحظنا عنوان الفيلم نجده يعكس المفارقة بين تنفيذ أحكام
الاعدام (حد) وروح الفرح المتمثل في الطبل (الطار).
الشلاحي وقد أنجز عدة أفلام قصيرة وطويلة تشي بملكته الحساسة
في نسج حبكة أفلامه. منها فيلم «المسافة صفر» الذي أعادنا الى
أفلام "النوار" التي شاعت في الأربعينيات وما بعدها في السينما
العالمية وكذلك فيلم«عطوى» و فيلم «كمان»، وفيلم «المغادرون».
الحب والتقاليد
لكن هنا، ينبغي أن ننتبه الى أن "حد الطار" يطرح جدلية : هل
نستسلم للحب أم نتمسك بالتقاليد والموروثات التي قد لا تناسب
طموحاتنا وتغيرات حياتنا الضرورية؟، (وهي جدلية ناقشتها
السينما المصرية منذ الأربعينيات وحتى الستينيات في أفلام
كثيرة، نتذكر منها «ليلى بنت الفقراء» و «ليلى بنت الأغنياء»
على سبيل المثال وما ورد في البال في هذه اللحظة، وغيرهما
الكثير الكثير من الافلام التي ناقشت هذه المسألة وتأثيراتها
في حياتنا الانسانية...
لكن هذه الموروثات الاجتماعية الثقافية، على أية حال، تفرض
خضوعاً خاصاً يحيل إلى ثقافة القطيع. وهنا تكمن الثنائية
المتناقضة: بيع الفرح مقابل شراء الموت! هذه الازدواجية هي عمق
آخر جدير بالحفر فيه، وهي ما يحرك عالم قصة فيلم «حد الطار»،
عالم الحبيبان (دايل وشامة)، رجل أبيض وامرأة سوداء، بما في
ذلك من مفارقة يرفضها المجتمع، هما الآتيان من فئتين مختلفتين،
لكن الحب لا يعرف تصنيف الفئات ولا الطبقية الاجتماعية، إنه
الحب الذي لا يحكمه قانون، القصة التي كتبها أو انتشلها من
الواقع الكاتب مفرج المجفل (كاتب فيلم المسافة صفر، وفيلم
المغادرون).
قصة حب محفوفة بالصعاب
إذن يروي الفيلم عن "دايل"، ابن السياف، الذي لا يرغب في أن
يرث مهنة والده وأن يكون موظفاً بدائرة الحقوق والقصاص، لينفذ
أحكام القتل أو الحرابة بالسيف في حق مَن صدرت بحقهم الأحكام
الشرعية.. أحب "دايل" الفتاة "شامة" ابنة “الطقاقة”؛ المغنية
في الأفراح الشعبية، لكن عم دايل والمسؤول عنه بعد وفاة والده،
يرفض هذا الحب ويقف عائقاً أمام هذه الزيجة؛ ليس فقط لرغبته في
تزويجه من ابنته، ولكن بضغوطه المالية على دايل وحرمانه من
ميراث جده بالشرع والقانون؛ نظراً لأن والد دايل توفي قبل جده،
ومن ثمَّ لا يحق له شرعاً الحصول على ميراثه.
على مدار الأحداث نكتشف تصاعدها؛ فصحيح أن شامة تُظهر مشاعر
الحب لدايل؛ لكنها لا تتوقف عن التفكير في حبيبها وابن خالتها
المتهم في قضية قتل، ولا تستطيع عائلتها دفع الدية (الغرامة
المالية) الخاصة به لإنقاذ رقبته من تنفيذ حكم الإعدام، لنشاهد
تصاعداً للأحداث بصورة دراماتيكية محكمة؛ خصوصاً أن دايل يفترض
حال موافقته على الوظيفة التي سيرثها عن والده أن يكون المسؤول
عن تنفيذ الإعدام على حبيبها.
تحدث تطورات متسارعة للأحداث ونهاية غير متوقعة ولكنها معبرة
عن فكرة الفيلم، فالأحداث قدمت صورة لما كان يعيشه المجتمع
السعودي خلال تلك الفترة؛ (التسعينيات) بداية من بروز
المتشددين الرافضين حتى لمشاهدة مباريات كرة القدم، مروراً
برفض بعض العائلات الموسيقى في الأفراح والمشكلات التي عاناها
الموسيقيون في الفرق الشعبية، ونظرة المجتمع الدونية إلى
العاملين في مجال الموسيقى، حتى مع تقديم النساء موسيقاهن
وأهازيجهن في المجالس النسائية فقط بالأفراح.
قضايا جانبية هامة
من ضمن القضايا التي ناقشها الفيلم دون إسهاب؛ ما يتعلق بمسألة
"الثأر"؛ فالأسرة فقيرة، ولو كانت تحظى بوفرة المال لاستطاعت
إنقاذ ابنها من الموت. وأيضاً يلقي الفيلم بالظلال على
الاستغلال السيئ للتفسيرات الشرعية والدينية؛ سواء باستغلال
العم مسألة الميراث للضغط على ابن شقيقه، أو إمكانية أن يتحول
دايل إلى سياف من أجل قطع رأس مَن تحبه الفتاة التي أحبها .
طاقم ممثلين مختار بعناية
شارك في تمثيل الأدوار الرئيسية فيصل الدوخي (دايل) و أضوى فهد
(شامة)، اللذان أديا دوريهما بإقتدار وتلقائية ممتازة، تجعل من
أدائهما تقمصاً بالغ الاحترافية. كما ساندهما بنفس القدر من
حرفية الأداء كل من سامر الخيال وندى الشهري، وهاشم هوساوي،
وعجيبة الدوسري، وراوية أحمد والفنان القدير علي إبراهيم. هذا
الاختيار من الممثلين خلق توازناً يقترب بمصداقية فنية من
الفئة الاجتماعية التي يروي عنها الفيلم، لا سيما الممثلين
أصحاب البشرة السمراء والملامح الأفريقية للمواطنين السعوديين
الذين ينتمون إلى جذور أفريقية.
نعم هو فيلم مُخرَج وممنتج وممثل ومسرود بشكل رصين، تكاملت
حبكته لتصيغ من السيناريو الخاص به فيلماً جديراً بالمشاهدة
والتقدير، أخلص له المنتج المصري أحمد موسى، واستعد له فريقه
خلال ثلاث سنوات بما يكفل له التنفيذ المرموق.. هو دون شك فيلم
مغزول سينمائياً بشكل أخّاذ.