الشعب السوداني جانٍ أم مجني عليه؟
ينتقل الفيلم برصده من الحالة العامة لحالة أشد خصوصية تصل
بلقطات الكاميرا أن تقترب من وجوه الشعب لتبرز خطوط ومعالم
وجهّ المخفية وتفاصيلها بين لونها الداكن.
حيث غرس جمل حوارية توضح أن الشعب لم يعد يهتم بالسينما سواء
على مستوى الثقافة أو حتى على مستوى الترفيه، ويظهر ذلك من
خلال محاولات أبطال الفيلم بدعوة الجمهور المجانية للحضور
ليأتي عدد قليل على الرغم من قرب دار العرض لمنزلهم واختيارهم
لميعاد مناسب للجميع، مما يوضح عدم الاهتمام بالأمر من الأساس،
وأن غياب الوعي لم يتشكل من خلال غياب السينما فقط في آونتها
الأخيرة، بل أنه غياب تدريجي سبقته مراحل عدة أدت به إلى هذا
الحال المُضمحل.
ويتضح ذلك من خلال اللقطات الأرشيفية الخاصة بتاريخ السودان،
ثم بنقل رد فعل الجهات المعنية عندما علمت بتكاتف أفراد
الجمعية وسعيهم نحو فتح دور العرض من جديد وعرقلة الأمور التي
لا شأن لها بالفن الحر.
ليصبح من يأتي من الشعب إلى السينما هم من تبقى لديهم شئ من
الوعي بأن السينما ما هي إلا نوع من الترفيه والضحك والإثارة.
أي أن وعي الجميع قد غاب وفقد مساره الحقيقي وحققت الدولة ما
كانت تريده، وأصر الفيلم على أن يُرجع ذلك للسلطات العُليا
بمشاهد يتخللها وثائق تليفزيونية يهتف فيها كبار السياسيين
والإعلاميين باسم دولة السودان وثقافتها ووعيها وهم على النحو
الآخر يبرزون النقيض بكاميرا السينما الخاصة بالفيلم.
وعلى الرغم من ذلك فالإدانة تطول الشعب أيضًا المُقدم كشعب
سلبي مُستسلم للأمر الواقع، بعدما كان يقوم بثورات ويعترض على
السلطات وقوانينها التي نُقلت كمادة أرشيفية للتوثيق بين مشاهد
الفيلم.
سينما الثورة
وبالتماس مع اسم السينما التي سعى أبطال الفيلم لافتتاحها طوال
الأحداث تحمل اسم "سينما الثورة"، لم يكن الاسم هنا بهدف
التحريض على قيام ثورة، بقدر ما كان اسم به إشارة توجيه
للمتلقي لفعل شئ، حيث أن الثورة لم تعنِ فقط ذلك الحشد الغفير
من الشعب المتمرد على أنظمة حكمه، بل تحمل أيضًا الحث على
الفكر وإعمال العقل، الثورة على ذواتنا أولًا قبل الثورة على
أنظمة الدولة، البحث عن مناطق الظلمة بهدف التغيير وعودة
الوعي.
ولكن لكل ثورة أهداف، فإن كانت الثورة هي فقط التمرد في ذاته
ستنقلب لفوضى لذا سبقتها كلمة "سينما" وهي المفتاح الحقيقي
للتأني وإعادة هيكلة بناء الوعي الغائب.
ولم يترك الفيلم أي كبيرة أو صغيرة تسببت في تلك الأزمة ولم
يناقشها، وذهب إلى فكرة بناء المساجد الكثيرة في مكان واحد على
سبيل المثال يزداد عدد المساجد عن 6، بينما على الوجه الآخر لا
توجد سينما واحدة.
ليوضح أن هناك يد أخرى كان لها شأن بذلك الغلق، اهتمت بتكريس
سلطة الدين على الفكر والثقافة.
الحديث عن الأشجار اسم يحمل الكثير من المعاني
أما عن اسم الفيلم "الحديث عن الأشجار" فأي أشجار هي المقصودة
إذن؟، فعادة للشجرة جذع قوي ثابت لا يمكن لأحد أن يخلعه بسهولة
وبالعودة إلى موضوع الفيلم الرئيسي نجد أنه من المفترض أن يكون
للسينما أيضًا جذع وجذور أقوى، نظرًا لأنها محفورة في الوجدان
والعقل والثقافة، ولكن في حقيقة الأمر كان هناك من هو قادر على
محو ذلك الجذع والجزور من العقول والأذهان، إذن فماذا عن
الأشجار؟!
ومن زاوية أخرى كفكرة "الحديث" عن أي شئ حتى وإن كان عن
الأشجار، أي إذا حاول هؤلاء مناقشة أحوال الأشجار في فيلم
ليعرض في سينماتهم المُرممة حتمًا ستعتبره الدولة جريمة، وتبدأ
في التحقيق فيه حتى ينكشف لها كل محاوره ومن ثم تقرر إذا كان
مناسباً للعرض أم لا.
نظرًا للاهتمام بمناقشة موضوع كالأشجار والبعد عن القضايا
المحورية، ليكون ذلك هو الصمت بعينه، والصمت عن وضع خاطئ،
جريمة من أبشع الجرائم التي يرتكبها أي شعب في حق نفسه وفي حق
بلاده.
كما يُحيل عنوان الفيلم المتلقي لأفكار أخرى قبل المشاهدة، لا
علاقة لها على الإطلاق بالفكرة المطروحة، ويمكن أن ذلك مقصود
بالفعل كإشارة لما تريده الجهات المعنية بالثقافة من إحالة في
الألفاظ المُستخدمة داخل الأعمال الفنية سواء على مستوى الحوار
أو حتى بداية من الاسم كمدخل للفيلم.
ليتحقق هدف الفيلم بكل ما يحمله من دِلالات كونه لم يقتصر على
مكان واحد ولا زمان واحد ولا حتى قضية واحدة، فالقضية من
الممكن أن تمس أي بلد في أي قارة كانت، والأطروحة لم تقتصر على
السينما وحدها فحسب، بل تشمل جميع المحاور الفكرية والثقافية
التي إن تصادف وجودها في أي دولة أخرى سيحل عليها ما عُرض عن
حال السودان في زمنها ووقتها الحالي.
ولكن إذا أُعيد إخراج الفيلم من جديد في ظل هذه الأحداث، حتمًا
سيحتاج الأمر لعناية خاصة ودراسة جديدة لحال الأشجار بعدما
ذهبت هي الأخرى ضحية مع من ذهبوا في فيضان السودان المُدمر.