الفيلم مستوحى من قصة قصيرة للأديب الأميركي الكبير فرانسيس سكوت
فيتزجيرالد تحت عنوان: حالة بنجامين بوتون الغريبة. و هو عنوان الفيلم نفسه
الذي أخرجه ديفيد فينشر.
جسد دور بنجامين بوتون النجم براد بيت فيما جسدت النجمة كيت بلانشيت
دور حبيبته ثم زوجته ديزي وتراجي هينسون دور كويني التي تعمل قيمة دار
للمسنين. تلقى الفيلم ترشيحات لجوائز أوسكار من بينها جائزة أفضل مخرج
سينمائي و جائزة أفضل فيلم وجائزة أفضل ممثل لبراد بيث وجائزة افضل ممثلة
مساعدة لتراجي هينسون و فاز بثلاث جوائز اوسكار و هي جائزة أفضل تجميل و
جائزة أفضل تأثيرات بصرية و جائزة أفضل إخراج فني.
الفيلم يحكي قصة بنجامين بوتون الذي ولد بمظهر مولود صغير الجسم "جسم في
حجم أي مولود عادي" لكن على حالة رجل عجوز في الخامسة والثمانين من العمر
فنراه، على طول الفيلم، ينمو جسديا بينما يصغر في السن. هذا التطور هو لب
التعقيد أو بالأحرى التحدي الكامن في القصة والذي رفعه في شقه الأول بنجاح
المخرج الموهوب ديفيد فينشر اعتمادا على استعمال جد موفق للمؤثرات الخاصة.
مجريات الأحداث اختلفت عما جاءت عليه في نص القصة. نجد في القصة أن بنجامين
بوتون ولد رضيعا بلحية طويلة ويتحدث كما يتحدث البالغون. ولد في المستشفى
وليس في البيت، في السبعين من العمر وليس الخامسة والثمانين. رعاه والده و
شجعه على الذهاب إلى الجامعة و لم يتخلَ عنه أمام دار للمسنين. بالإضافة
إلى أن أحداث القصة وقعت في بالتيمور بينما تمت إدارة الفيلم في
نيوأورليانز.
ماذا أراد المخرج من رفع هذا التحدي؟ إن رسم المسار العادي للحياة بالمعكوس
جعل منها عبارة فنية راقية و مؤثرة. هذه حياة تسير بالمقلوب، تبدأ حيث
تنتهي الحياة العادية، تشدنا إلى تفاصيلها وتعطي لكل حياة تصادفها، في لحظة
المصادفة، معنى و دورا قويا: فهاهي كويني ترحب ببنجامين بوتون، قائلة
بإيمان إنه هبة لها من السماء، عندما وجدته متخلى عنه ملقى به على قارعة
الطريق أمام دار للمسنين. وهاهي كيت بلانشيت "ديزي" تسطع في سماء الفيلم
مجسدة ثلاث مراحل أساسية من حياة بنجامين بوتون: مرحلة العجوز/الطفل وفيها
إنجذبت إليه وهي دون السنة الخامسة من عمرها كمن لمس أن وراء هذا العجوز
القصير القامة طفل يحب اللعب و سماع القصص قبل النوم. ثم مرحلة الشاب/الشاب
التي تبادلت فيها ديزي الحب مع بنجامين بوتون و فيها تزوجا وأنجبا طفلة،
وأخيرا مرحلة الطفل/الطفل "المرحلة الأكثر غموضا" و فيها اضطر الاثنان إلى
الفراق، يقول بنجامين لديزي: سأختفي من حياتك، لن تستطيعي أن تتكلفي بنا
نحن الاثنين، اعتني بالطفلة فحسب. تصر ديزي على أن يبقى، لكنه رحل.
لم يكن في مستطاع شخصيات الفيلم أن تعي التطور الغريب لأحوال بنجامين
بوتون سوى كويني بفضل الإيمان و ديزي بفضل الحب، أما ما عداهما فقد تفهم
باستغراب هذا التطور. مؤدى ذلك هو أن الفيلم تطرق إلى إشكالية عويصة وهي
النظر في فكرة الموت عبر علاقة الحب و الإيمان.
إن حالة بنجامين لا يمكن إدراكها إلا من خلال ديزي حبيبته و كويني التي
آمنت أنه هبة من السماء. حقيقة بنجامين لا يعلمها إلا هاتان الشخصيتان
اللتان هما البوابة الوحيدة بالنسبة إلى المتلقي ليعلم بدوره هذه الحقيقة.
وهما البوابة الوحيدة أيضا لطرح سؤال موت بنجامين و النظر في هذا الموت.
هذا هو الشق الثاني للتحدي الذي قام به المخرج ديفيد فينشر في المرحلة
الثالثة و الأخيرة من الفيلم.
الموت نهاية لرحلة الحياة يمكن الاقتراب من فهمه إذا حصل وعي وإحساس مرهف
بتفاصيل تلك الحياة. كلما ازداد ذلك الإحساس كلما اكتست تلك الحياة معنى و
انتبهنا لتلك النهاية. و يكون هذا الإحساس قويا كلما كانت الحياة مفعمة
بالحب والإيمان. لا يمكن استجلاء فكرة النهاية، أي الموت، بالنظر في مسار
حياة عادية، بل لا يقع ذلك حتى بالنظر في حياة مليئة بالأحداث و الإنجازات
إذ المشكل آنذاك سيكون حول ماذا بعد موت هذا الشخص، أي حول المصير وليس
الموت "يمكن ملامسة فكرة المصير حسب هذا الفرق في فيلم المصير ليوسف
شاهين". هنا إذن نلمس عبقرية فكرة قلب المسار العادي، الطبيعي، للحياة
وجعله يبدأ من الشيخوخة نحو الطفولة، الكبر نحو الصغر، لأنه على مستواها
يسلط الضوء بقوة على ما هو غير عادي، طبيعي في ذلك المسار. و بما أن
البداية الغريبة لحياة بنجامين بوتون قد عرفناها منذ بداية الفيلم
فاهتمامنا سينصب على النهاية، ولإذكاء ذاك الاهتمام سيتم التعبير بالحب وعن
الحب، بالإيمان و عن الإيمان، عبر مستويات متصاعدة تمنح سماكة لكل مراحل
حياة بنجامين خصوصا المرحلة الأخيرة.
عندما نكتشف إتجاه حياة بنجامين المنطلقة من الكبر نحو الصغر، سنضطر طبعا
إلى طرح السؤال التالي: كيف ستكون نهاية هذا الإنسان؟ لو مات في لحظة
ولادته لقلنا إن نهايته كانت مكتوبة في ولادته. لو ترك ليلقى مصيره ككائن
غير مرغوب فيه كما عبر عن ذلك أحدهم قائلا لكويني: "البعض لم يخلق ليبقى
على قيد الحياة" لأصبحنا بصدد إشكالية أصحاب التشوهات الخلقية و ما العمل
من اجلهم؟. بل لو تحقق أحد الاحتمالين أو هما معا لانتفى السؤال وتعذر تصور
القصة و السيناريو من الأساس.
ثم ماذا كان الغرض من قلب منحى الحياة؟ هو فتح المجال للمتلقي ليتكهن،
ليتمثل مختلف أشكال نهاية، موت بنجامين بوتون. ومن تعدد أسباب الموت، وهو
شيء معروف، نطرق باب أشكال الموت. هل يمكن أن نتخيل أو أن تحصل أشكال
مختلفة للموت كأن يتبخر الإنسان أو يذوب أو يضمحل إلى أن يختفي إلخ... لم
يسعف الخيال كاتب السيناريو إريك روث ولم تسعف المؤثرات الخاصة المخرج
ديفيد فينشر في هذه النقطة بالذات بيد أنها كانت، في العمق، هي هاجس
الفيلم. كيف تم التصدي لهذا الأمر الواقع؟ بالتصعيد الميلودرامي. مات
بنجامين بوتون بعد أن نسي كيف يمشي على قدميه وكيف يتكلم. مات عندما انمحى
كل شيء من ذاكرته سوى من شيء واحد هو أنه كان يعلم في لحظة وفاته أن التي
مات في حضنها رضيعا في الثمانين سنة حسب عمره الموافق لأقل من سنة حسب
مظهره لم تكن أمه أو أي إمرأة بل كانت زوجته ديزي.
إيلاف في
31/08/2009 |