مرة أخرى يعاود
المخرج عز الدين سعيد تعاطي الأدب في أفلامه الروائية القصيرة بعد تجربتيه
الأخيرتين المأخوذتين عن قصتين للأديب الكبير نجيب محفوظ 'الغرفة رقم 12
والزيارة'
اللتين أحدثتا صدى واسع وحققتا نجاحا كبيرا، الذي شجع المخرج الى التوجه
لأدب يوسف
إدريس لينتقي منه واحدة من قصصه الشهيرة بإحدى مجموعاته المعروفة باسم 'رهوان'
ويكلف السيناريست ياسر فرحات بكتابة السيناريو ليتولى هو مهمة التجسيد
وتحريك
الشخصيات وإكساب (الحدوتة) طابعا سينمائيا يليق بعظمة القصة التي تتركز
فكرتها في
مفهوم التحدي ومواجهة العجز وهزيمته قبل أن يستبد بصاحبه ويشكل لديه عقدة
نفسية
تصيبه بالإضطراب وتعطل مسيرته، فالبطل 'رهوان' ينعت بهذا الاسم
وتنطبق عليه صفة
السرعة برغم إعاقته واعتماده على ساق واحدة، يمارس حياته بشكل طبيعي ويسابق
الريح
في خطاه، يحبه أهل القرية الطيبين فهو الخدوم المطيع المسالم، يوحي بحركاته
وإيماءاته وقوته بأن وراءه سراً إلهياً وكونياً خطيراً، يثير
الإعجاب والخيال
وترتبط معجزاته بالأساطير، إذ لا شيء يعصى عليه، حتى تسلق النخيل الذي
يحتاج من
الرجل العادي المهارة والتدريب نراه يمارسه بمنتهى السهولة والبساطة، غير
أنه يقوم
بمهام صعبة أخرى كإصلاح الأعطال الكهربائية فيتأكد للعامة من
الناس أن ثمة مساً
شيطانياً يسكنه ويؤهله لمثل هذه الأدوار وتتردد سيرة 'رهوان' وبالطبع تلتفت
إليه
نساء وفتيات القرية ويتقن إلى مراقبته في الذهاب والإياب وهو يقطع المسافات
بين
الحقول والمزارع على عكازه بسرعة مذهلة، ولكن قلب رهوان الذي
جسد شخصيته الممثل
الشاب محمد يونس ببراعة يخفق لواحدة منهن فقط، 'رشا سامي'، تلك التي أدت
دور
الفلاحة البسيطة التي ترى في 'رهوان' فارس أحلامها ولا تعير عاهته إهتماما،
بل ربما
تكون العاهة ذاتها هي الشيء المثير في الفتى الاستثنائي المختلف، يعيش
الشاب النبيل
قصة حب يعكر صفو نقائها، الرجل الشرير، الغريم في الحب والحياة ذلك الذي
يحاول
دائما النيل منه ومعايرته بعجزه لفرط حقده عليه وهو ما يظهر
بوضوح في مشهد المواجهة
العنيفة التي قتل فيها الأخير الحمامة في تحد سافر لمشاعر رهوان، لا سيما
أن
الحمامة كانت تمثل روحه المسالمة وسماحته الفطرية.
فهو يربط بين قدرة الحمام على
الطيران ورغبته الدفينة في أن يكون له جناحين ليتماثلان في
الوداعة والخفة، وهو رمز
استخدمه يوسف إدريس في القصة وأكده عز الدين سعيد في الفيلم باعتباره محور
جوهري
وإشارة ذكية للربط بين طبيعة الطائر وطبيعة البطل، إحتدم الصراع بين الرجل
الشرير
ورهوان وأسفر عن سقوط بطلنا المرهف على الأرض مضرجاً في دمائه
لدلالة القسوة
والغلظة والفظاعة التي تتوافر في أشخاص لا يعرفون إلا لغة العنف، في تلك
اللحظة
الفارقة يقرر رهوان تركيب ساق صناعية وتغيير هيئته ظنا منه أن ذلك يقيه شر
التهكم
والعدوان، وعندما يشرع في تركيب الساق الصناعية يكتشف لأول مرة أنه بالفعل
عاجز
ومعوق، فقد بطأت حركته وصار ثقيلا على الأرض وغير مدهش بالمرة،
فما كان يميزه ويشعر
أهل القرية بالإعجاز لم يعد موجودا وأن أصدقاءه وأحباءه وفتاته الجميلة
انصرفوا عنه
جميعا حينما فقد أحلى ما فيه، روحه المثابرة وتحديه الملغز، هنا يتخذ قراره
الفوري
بالعودة الى طبيعته الأولى فيخلع ساقه الإصطناعية ويلقي بها في
عرض البحر كإعلان
لعدم العودة إليها والمضي في طريقه ومسيرته يحب ويلعب ويضحك ويجري على
عكازه ويداعب
الأطفال بخفته المعهودة، روحا وحركة.
بهذا السرد الأدبي والغنى الجميلين تتفكك
طلاسم الشخصية وتتضح رموزها وتصبح صورة جلية لمعنى الصمود
والتحدي يفردها المخرج
على الكادر السينمائي ويسلط عليها الضوء فتزداد بهاء وتأثيرا لا سيما في ظل
الموسيقى التصويرية المصاحبة التي باتت ماركة مسجلة لعز الدين سعيد في كل
أفلامه،
حيث يعتمد بشكل أساسي على الجرس العالي في التنبيه والتأكيد على أهمية
المشاهد
ومعانيها، كما يفعل تماما في استخدام الإضاءة والصورة، فهما
عنصران مهمان يعول
عليهما كثيـــــرا في التأثير وهو بذلك يكــون قد خلق خصوصية لأفلامه، لا
سيما وأنه
يجيد استخدام التقنيات الفنية الأخرى كالمونتاج والألوان والدوكوباج.
إضافة إلى
أنه يتدخل ايضا في السيناريو بشكل ايجابي لإحساسه بأنه المسؤول الأول
والأخير عن
الفشل والنجاح، ولهذا تتسم تجاربه ببصمة واضحة من الصعب أن تتشابه مع بصمات
أخرى،
فضلا عن أن عز يمتلك حرفية التكثيف والاختزال وهو ما تتطلبه
صناعة الفيلم الروائي
القصير التي لم تعد الآن صناعة محلية كما كان ينظر إليها من قبل بعد أن
حصدت جوائز
المهرجانات الدولية وأوقفت نمو ونشاط الفيلم الروائي الطويل.
القدس العربي في
23/02/2009 |