كان تاريخ عرض إسماعيلية رايح جاي 1997هو الحد الفاصل بين زمن سينمائي
وآخر، أو الإعلان الحقيقي عن ظهور حقبة جديدة تميزت - رغما عن أي تحفظات -
بتطور شمل كافة أوجه الصناعة إعتمادا علي ما أصبح يحققه الفيلم المصري من
إيرادات عالية في ظل الطفرة التجارية السينمائية وظهور كيانات إنتاجية
كبيرة حققت افلامها بتقنيات متقدمة وأنشأت العديد من دور العرض السينمائي
بمستوي لائق ومشرف. علي المستوي الفني تميزت العشر سنوات الماضية أيضا
بالديناميكية والتغير الدائم في نوعية الموضوعات والأفلام وخريطة النجوم
،وتوجهات الجمهور التي انقلبت في دورة شبه كاملة من بدايته التي سيطر عليها
نجوم الضحك بأشرطة تخلط بين الكوميديا والتهريج ، إلي نهايته بإنقلاب تام
في موازين النجوم والبحث عن معادلات البطولة الجماعية وتنويع الموضوعات
وأساليب الأفلام . واستطاعت نوعيات مختلفة من السينما أن توجد لها مكانا
علي خريطة الأفلام فعادت الأفلام الرومانسية والواقعية الإجتماعية
والتراجيديات المفرطة في المأساوية وعادت أفلام الحركة بغزارة وكذلك أفلام
النقد السياسي و الإجتماعي بل وظهرت نوعيات نادرة في السينما المصرية مثل
أفلام الرعب والغموض والإثارة البوليسية والسحر ومعظمها كانت لمخرجين جدد.
عودة الغائبين علي الجانب الآخر عاد للظهور و التواجد بقوة مخرجون قدامي
مهمون كانوا قد اختفوا تماما أو كادوا منهم محمد خان و يسري نصر الله .. و
هاهو أيضا مجدي أحمد علي الذي لم يقدم طوال العشر سنوات الماضية سوي فيلمه
الثاني أسرار البنات يقوم حاليا بإعداد فيلمه الرابع عصافير النيل في نفس
الوقت الذي يعرض له فيلمه الثالث خلطة فوزية بين عزوف جماهيري ملحوظ يقابله
إهتمام نقدي كبير ، مع أو ضد الفيلم . فهل أسهم مجدي العائد بموهبته وخبرته
الفنية في إثراء الحركة السينمائية و النقدية بصناعة أفلام يمكن إعتبارها
علي الرغم من ضعفها تجاريا تجارب متقدمة سينمائيا تتيح الفرصة لمزيد من
حرية الفكر وتمهد دروبا جديدة في الإبداع ؟ خلطة فوزية يحكي في جانب منه عن
إمرأة من العشوائيات أربعينية جميلة ومزواجة- إلهام شاهين -. تبدأ حكايتها
قبل نزول العناوين بمشاهد متلاحقة لقصص زواجها وطلاقها بأسلوب يمزج بين
الخبرية و الهزلية ولكن دون تحقيق أي معني أو تأثير .. فالزواج يتم بعرض
مفاجيء من فوزية وينتهي بيمين طلاق يلقيه الأزواج تحت إلحاحها ليس إستسلاما
لقوة شخصيتها بل خوفا من الجارة العملاقة ضخمة الجثة مخيفة الملامح و التي
لن يكون لها أي وجود فيما بعد . بعد العناوين تتوالي لقطات لمناطق عشوائية
وبيوت من الطوب ومواطنين يلوثون ماء النهر . وقد يتصور مخرج الفيلم أنه
بهذه اللقطات التسجيلية قد إستوفي ملامح العشوائيات في فيلمه . فسوف نري
العشوائيين في الفيلم بعد ذلك يعيشون حياة جميلة وممتعة لا يتوقفون عن
الهزار والضحك ولا يشغلهم سوي التفكير في الجنس و لن يعكر صفوهم يا ولداه
سوي أن قطاعا منهم يستحمون و يقضون حاجتهم في حمام مشترك وهي في الحقيقة
أهون الأمور التي يعاني منها العشوائيون في الواقع الحقيقي.الواقع
المستحيلبعد الزيجة الخامسة من شاب أصغر سنا - فتحي عبد الوهاب - سنكتشف أن
حلم فوزية الوحيد أن يكون لها حمامها الخاص بعد أن حلت كل مشكلاتها مع
أزواجها السابقين ، بالتفاهم ! ومع البطالة ، بصناعة الكعك والمربي !ومع
ضيق المكان وزحمة الحياة ، بتوزيع الحنان علي الأبناء !هكذا حلت فوزية كل
المشكلات التي يواجهها الملايين من أبناء هذا الوطن لتبدو نموذجا رائعا
بالفعل يمكن ضمه إلي حملة الحكومة في استغفال العقول إحسبها صح تعيشها صح
..ولم يعد ينقصنا إلا الدعوة لتعميم خلطة فوزية في السوبر ماركت وتوزيعها
مع بطاقات التموين . إن صناع هذا الفيلم لا يدركون أن العشوائية ليست مجرد
صور ولقطات ترصدها كاميرا نانسي عبد الفتاح بعين سائح لمجتمع غير حضاري
يلوث ماء النهر ولكنها نوع من الحياة شديدة القسوة والجفاف و الفقر فرضت
علي نوع من البشر لتحيلهم إلي مسخ من المخلوقات كشف عنهم خالد يوسف في حين
ميسرة بإبداع متميز وصدق شديد و عمق يكاد لا يتيح الفرصة للآخرين في أي
إضافة علي المدي القريب..يعجز المونتاج عن تحقيق أي إيقاع للفيلم فتتوالي
المشاهد دون أن تتقدم في أي إتجاه فهي مجرد إسكتشات تعكس جوانب لا تصدق من
شخصية فوزية بذكائها و قوة شخصيتها و قدرتها علي التواصل والتصالح والتقريب
بين مطلقيها وبعضهم وأبنائهم الذين تربيهم في واقع يخلو من أي منطق . فلا
يمكن أن يتزوج سائق سيارة من راكبة تقول له بعد دقائق من تعارفهما وبلا
مناسبة تتجوزني ؟ .. ولا يجوز تحت أي ظرف من الظروف أن تقول إمرأة لمطلقها
أمام مطلقيها الآخرين إقفل لي السوستة يا سي عبده ..ولا أن يدور الحوار بين
الأزواج ومطلقتهم حول ملابسها الداخلية وطقوسها الجنسية أمام زوجها الجديد
ربما ولا في بلاد الإسكيمو. إسكتشات الأنماطحكاية فوزية لا تعبر إلا عنها
وهي علي الرغم من خيال المؤلفة الرائع هناء عطية إلا أنها في سياق واقعها
وبيئتها لا تغري بالمتابعة ..فعالمها مزيف وضيق لا يتسع باللقطات التسجيلية
و لا بالتلميحات الفلسفية ولا بكوميديا إسكتشات الأنماط في السخرية المكررة
من أزواجها القدامي كالصياد برائحة أسماكه الكريهة أو السكير المخمور دائما
أو رجل المطافي المصاب بفوبيا النار . يستهلك الفيلم كل ذلك ولا يجد أمامه
ما يضيفه أو يدفع أحداثه فتتوالي الشخصيات النسائية في الظهور بشكل فجائي
ومقحم قد يراها البعض صورا متنوعة للمرأة الباحثة عن أمانها وحريتها وهو
أمر إذا إفترضنا صحته فإنه يحيل الفيلم إلي مقال أو ريبورتاج عن مجموعة
شخصيات مختلقة ربما نتابعها لتواجدها في نفس المكان مثل الراقصة العجوز-
نجوي فؤاد- التي تهتم بماكياجها بنفس قدر إهتمامها بإعداد قبرها . أو
الجارة نوسة- غادة عبد الرازق - المرعوبة من شبح العنوسة إلي حد يجعلها
تقترح علي فوزية إقتسام زوجها معها بالحلال . ولكن ما لا يمكن تبريره أو
قبوله هو الإنتقال بالأحداث للإسكندرية أكثر من مرة لمتابعة شقيقة زوج
فوزية - هالة صدقي - شبه المختلة عقليا.عندما تستنفذ كل هذه الشخصيات
أغراضها وتعجز عن دفع الدراما للامام تظهر أم فوزية - عايدة عبد العزيز -
التي تلجأ إليها لتعيش معها بعد تعرضها لسرقة ذهبها أو ما تعتبره أمانها .
وفي الحقيقة إن وصول الأم في عربة التوك توك يعد الملمح الوحيد لمعاصرة
الفيلم الذي لولاه لإعتقدنا أنه فيلم جري تصويره في الثمانينات أو
التسعينات لنفس المخرج أو لأحد زملاء جيله . ولكن أكثر ما يضعف الفيلم هو
هذا التأرجح بين دراما الشخصية الواحدة في نصفه الأول ودراما الشخصيات
المتعددة في نصفه الثاني . فوزية لن تصلح ما أفسده الدهرتنعكس الأجواء
القديمة في الفيلم عبر اختيار أبطاله جميعا من الوجوه القديمة بإستثناء
فتحي عبد الوهاب وغادة عبد الرازق بأداء إستثنائي راق و متقدم . وفيما عدا
ذلك سوف تطالعك وجوه نسائية منتفخة من الشد والحقن والنفخ و السيليكون .
شخصيات تتكلم بصعوبة وتسير بتعثر وتتحكم في تعبيرات وجهها بالكاد فتفتقد
للحد الأدني للياقة البدنية والفنية والتعبيرية التي يجب أن يتحلي بها
الممثل حتي تمكنه من أداء الشخصية بشكل صحيح.كما يختلط البناء الدرامي
تختلط الأساليب التعبيرية و الفنية وتتراص علي طريقة الكولاج فيتلخص النقد
السياسي في شوت تسجيلي للافتات مبارك والعبور للمستقبل وفي مشهد وحيد لهدم
بلدوزر الحكومة للحمام الذي صنعه الأهالي . وتبدو النزعة الفانتازية في
ظهور مطلق فوزية الراحل في حياتها أثناء يقظتها . كما تبدو العبثية في
حوادث الموت الثلاثة التي تقع اثناء الفيلم .وتتجلي النزعة التعبيرية في
مشهد موت الطفل الكسيح وكأنه يطير سعيدا علي كرسيه المتحرك قبل أن يصدمه
الأوتوبيس ولكن مع الأسف بتنفيذ رديء و بتقنيات قديمة . إختلاط الأساليبفي
فيلمه السابق أسرار البنات كسر مجدي أحمد علي أسلوبية الفيلم الواقعية في
مشهد النهاية ذو الطابع التعبيري حيث رأينا كل شخصيات الفيلم في حجرة
البطلة ولكن هذا الكسر المتعمد أضفي قيمة علي الفيلم وأبرز المعني وأحاط
بالموضوع ككل كما بدي كصورة ذهنية تشكلت في ذاكرة البطلة بعد الخبرة التي
مرت بها طوال أحداث الفيلم . ولكن الحال يختلف هنا فقد إختلت حسابات مجدي
أحمد علي وخلط بين أساليب الواقعية النقدية والسحرية والتعبيرية والتسجيلية
تماما كما إختلت مقادير خلطة فوزية التي لم يستسغها الجمهور لإنشغال
صانعيها بمغازلة جمهور النقاد و المهرجانات وهو ترف لا تحتمله صناعة
السينما المصرية خاصة في ظل ظروف اقتصادية صعبة تواجهها حاليا قد تعرضها
إلي حالة من الكساد والتراجع انتظارا لطفرة جديدة أو معجزة من نوع
إسماعيلية رايح جاي . ولكن أخطر ما في خلطة فوزية هو أنه يزيف العقول و
يثير حماس وإعجاب قطاع من المثقفين لا يشاهدون السينما المصرية إلا نادرا و
يشعرون بحنين لهذه النوعية من الأعمال التي يرونها تتناول بتعاطف وحب
شديدين من كانوا ومازالوا يسمونهم بالمهمشين . ومع تغير الزمن تغير المسمي
و الواقع ولكن أصحابنا مازالوا علي عهدهم مع أصحابهم . وقد ينبري الناقد
الكبير صاحب توكيل أفلام الحداثة وما بعدها في تصنيف الفيلم تبعا لأي من
الحداثتين وفق الظروف . ولكن حقيقة الأمر إن صناع هذا الفيلم يتحدثون عن
واقع لا يعرفونه ويشاركون في سينما هم غائبون عنها ولا يشغلهم رواجها أو
كسادها .
جريدة القاهرة في
24/02/2009 |