عندما تقدم السينما المصرية في زمن ضنين بالإبداع الجميل فيلماً بروعة
ميكانو كان لا ينبغي أن يقابل بهذا الاحتفاء النقدي الأحول إذا صح التعبير
، وفي شبه إجماع علي منح الجوائز المجانية إلي طرف دون آخر عبر رؤية عاطفية
تنساق في انحياز لتفعيل معايير شكلية رومانتيكية قد تخدع المشاهد البسيط
الذي قد تغرورق عيونه بالدموع فيُعلي من شأن وقدر وموهبة من أبكاه عبر
متابعة محدودة ومنقوصة وما كان ينبغي أن ينساق لتلك الحالة..في البداية نحن
أمام دراما أحيي الفنانة إسعاد يونس وهي من تحمست لإنتاجها ومحمود كامل
الذي أقدم علي إخراجها .. فأنا أتخيلها كسيناريو محرر علي الورق ليس فيه من
توليفات السينما التي يمكن أن يتفاعل معها المشاهد المصري في صالات دار
الخيالة المصرية أو العربية ، فهو مشروع منزوع الإثارة الجنسية ، ولا
تتخلله اسكتشات الفن الهنيدي المعاصر ، ولا قفزات أفلام الأكشن السقاوية ،
ولا يمكن أن يقوم ببطولته مطرب تطير بنات الزمن العبيط لتقبيله واحتضانه
علي طريقة تمورة العجيب ، أو تعتمد علي مغنية حسناء تخفف من أعباء ارتداء
ملابسها في مدرسة الفن الصيفي المرووي المثير كلما دعت الضرورة التجارية
ذلك !!دراما أفقيةفيلم ميكانو أراه إن صح التعبير ـ دراما أفقية ـ رغم كل
لحظات التصعيد لأن أحداثها تبدو كالأواني المستطرقة .. فإذا ما تم صب
المزيد من الأحداث في آنية سرعان ما يتساوي ارتفاع مؤشرات المخزون الدرامي
في جميعها ، والبديع أن يتم ذلك دونما الشعور بأي إحساس من الملل أو رتابة
الإيقاع فعيون الجمهور محدقة في انتباه ويقظة وإعجاب حتي بسطاء المشاهدين
إلي حد قول أحدهم لزميله عقب الخروج من صالة العرض مش عارف دي تاني مرة
أدخل الفيلم ده ويمكن أدخله تاني مع إنه فيلم غريب !! ..إن الرؤية النقدية
عبر نظرة أحادية التوجه والإحساس حتماً ستدفع بصاحبها إلي الوقوع في خلل
البعد عن التوازن في التعامل مع كل جوانب الإبداع في فن يعتمد أساساً علي
منظومة أداء تتكامل فيه الأدوار وتتناغم عبره العناصر وتتجاور فيه
الأدوات.البعد الإنسانيلا يستطيع أن يتغافل أحد عن الأداء الإبداعي العبقري
للفنان الجميل تيم الحسن في أول فيلم مصري يشارك في بطولته .. ولعل أهم
جوانب الإبداع تمثلت في رسم جوانب البُعد الإنساني العميق للشخصية بكل
تعقيداتها وفق أداء يتميز بالسلاسة والبعد عن الإطار النمطي الذي اعتدناه
في السينما المصرية لمثل هذه الشخصيات .. ورغم تكرار أحاديث تيم الحسن بأنه
لا يؤمن بحكاية التعايش مع الشخصية أثناء مراحل التحضير وأنه كان مشغولا
بالعديد من الأعمال في فترة التجهيز لدخول الفيلم ، إلا أنني أري أن هناك
تعايشاً حرفياً ، فكما يقول أهل الفن الكروي أن حكم المباراة الذي لا تشعر
بوجوده هو الحكم الناجح ، فإن الممثل الناجح هو الذي لا تشعر بتمثيله وتيم
ينتمي إلي تلك المدرسة من المبدعين أصحاب نبرة الصدق والتعايش الفطري السلس
وشديد الإنسانية.وأري أن مخرج العمل قد أجاد الاختيار للفنان تيم الحسن
لأداء الدور ، فإنه بالإضافة لموهبته يتمتع بسمات شكلية تتوافر لها ملامح
وسمات البراءة والبساطة ، فإن الصورة الذهنية لدي المشاهد المصري أنه شاب
غير مصري ، وهو أمر ساهم في دعم ملامح الغربة للشخصية ومن ثم التعاطف
معها.وأعتقد أن حرفية المخرج وتمكنه من أدواته قد ساهمت إلي حد كبير في رسم
براءة ووداعة الشخصية من خلال تكثيف الإضاءة المحيطة بعالم المريض فتنعكس
علي وجهه فيزداد وجهه نوراً .. وملابس بسيطة أغلبها ذات ألوان فاتحة، أما
حكاية الميكانو التي تعلن الناقدة المتميزة ماجدة خير الله عن عجبها
لاختيار المخرج وفريق العمل لها لتكون اسماً ورمزاً للفيلم ، فإنني أعتقد
أن الرمز واضح الدلالة عبر أكثر من مستوي .. فهي في النهاية لعبة والبطل
يبدو كطفل في كل مرة تضيع فيها الذاكرة.التوازن المفقودوعلي مستوي آخر ترمز
اللعبة عبر تركيباتها المعمارية التي تشير إلي تمسك المريض الطفل البسيط
بتركيبها في نسق إبداعي معماري عبراختيارمنطقي منظم قابل للمزيد من البناء
عليه وصولاً إلي إنشاء كيان جديد وتحقيق نجاح يعيد إليه توازنه.وعلي
المستوي الثالث ترمز تلك اللعبة إلي أننا كثيراً ما ننجح في البناء إلي حد
الإجادة والبراعة ولكن يمكن انهيار ذلك البناء عبر نظام أسهل للتفكيك ..
وهي إشارة لحالة تفكيك الوجدان عند تفكيك مفردات الذاكرة في كل مرة كان
يتوه فيها المريض عن الدنيا.وعلي المستوي الرابع الإشارة إلي أهمية أن نعيش
الحلم حتي لو تمثل في مجرد بعض قطع صغيرة تتكامل لوناً وتتناغم في أشكالها
لتجسيد حلم وهمي مصنوع لكنه في النهاية مريح ومبدع..غياب الرومانسية!وعلي
المستوي الخامس وعبر مشاهد إهداء القصر الميكانو اللعبة من خالد المريض
العاجز عن شراء أو الحصول علي هدية أو حتي الخروج للتسوق أو حرية الاختيار
فإن للميكانو هنا معني وقيمة أنه يبقي في النهاية للإنسان حتي في حالات
ضياع كل مكتسباته الإنسانية ومقتنياته الاستهلاكية فكره الإبداعي وهو أعظم
ما يمكن أن يُهدي للمحبوب ، بل وللوطن والإنسانية..وعليه فأنا عاتب علي
ناقدتنا الكبيرة للنيل من التجربة الأولي لمخرج واعد ، وهي تحدثنا بغرابة
شديدة عن فقدانه لرومانسية حسين كمال وواقعية ورمزية صلاح أبو سيف رغم هذه
الحالة الرومانسية الرائعة التي عشناها في كل مشاهد الفيلم ، واستخدام
الرمز في الصورة السينمائية والكادر الثري بالرموز الدالة والتي من بينها
الميكانو تلك اللعبة الجهنمية واستخدامها في تشكيل واقع جديد في إنجاز سريع
..إنني أري أن المخرج محمود كامل يمتلك رؤية إبداعية وقدرة علي إيجاد مرادف
بصري للسيناريو بل وإضافة مرادفات أعتقد أنه لم يكن لها أصل في السيناريو
علي عكس ما أشارت إليه الناقدة فهي تري أنه لم يكن المخرج المناسب وأن عليه
العودة لأفلام الأبيض والأسود ليتعلم من جديد فنون الإبداع السينمائي ..
الحكم النقدي هنا أراه في منتهي القسوة علي مخرج واعد قام بصياغة تركيبة
سينمائية مبدعة وجديدة وأن النجاح جاء صدفة وبسبب اختياره تيم الحسن الممثل
الناجح ..أما عن تجاهلها للأداء الرائع للفنان خالد الصاوي والاكتفاء
بعبارة أن له أداء مميز وكذلك لا حديث عن الفنانة نور التي لعبت أفضل
أدوارها علي وجه الإطلاق .. فهي هنا توجز نجاح الفيلم في وجود تيم ذي
الشخصية التي تخطف قلب ووجدان المشاهد .. لا مخرج ولا أبطال آخرون حتي أنها
وصفت أداء خالد محمود بأنه أداء مفتعل وشخصية تم إقحامها مع أنه صاحب الدور
الوحيد في هدم الميكانو وتبعثر قطعه عبر تبليغه عن الشخصية الفاقدة للذاكرة
وقد أجاد دوره بروعة !!أما الناقد الكبير الدكتور رفيق الصبان فقد أشاد
بالتجربة وبالمخرج وهذا أمر طيب وهام وقام بسرد حكاية الفيلم ، وأظنه شيء
مستغرب لفيلم يُعرض في أيامه الأولي !! .. ثم كانت المبالغة في الاحتفاء
بموهبة تيم الحسن والاكتفاء بالقول عن خالد الصاوي بأنه عايش أبعاد دوره
المعقد ولكن شخصيته القوية كانت تضفي علي الدور أبعاداً مرنة ومقنعة وإن
كان قد بدي مبالغاً بعض الشيء في بعض أجزاء الفيلم ..بطولة ثلاثيةلقد كان
الفيلم بطولة ثلاثية تشارك فيها تيم الحسن وخالد الصاوي ونور .. وأري أن
الفنان خالد الصاوي قد قام بالدور الأصعب لصعوبة الخيارات المتاحة للشخصية
، وحالة الصراع الداخلي بين الرعاية المخلصة الودودة للأخ للحماية من بطش
المجتمع واستثمار نجاحاته الإبداعية في مجال عمله ، وبين الإحساس اليومي
بأن أخاه صار سجين البيت يعيش حالة عزلة فرضها هو عليه بالقوة والاستماتة
في إقناعه للغروب عن دنيا الناس والشر ..لقد أدي خالد الصاوي عبر تحولات
الشخصية دوراً بارعاً حتي أن المشاهد وعبر تدخل إخراجي بديع قد شهد وجه
الصاوي وقد صار لونه قاتماً في مواجهة تيم ذي الوجه المضيء طول الوقت وهي
حالة من المعايشة عالية القيمة من الممثل والمخرج في تغيير وتلوين الشخصية
..إنني أري الفنان خالد الصاوي يعيش مرحلة أكثر نضجاً ووعياً عبر كل مشاهد
التصعيد والتغيير والحرص علي دوام النجاح في أداء دوره نحو أخيه لاستمرار
الحياة ، وعليه فقد كان أمر الإشادة بدوره واجباً والذي أراه لايقل إن لم
يفق أداء تيم الحسن..قد لا يحدث هذا الأمر كثيراً أن يتناول أحد كتابات
نقدية بإبداء الرأي ، وأعتقد أن الدافع أن نتحاور حول جوانب عمل ناجح في
زمن صار ضنيناً في مجال تقديم تجارب ناجحة ..أخيراً أود الإشارة لبعض أخطاء
السياق التتابعي راكور المشاهد في تفاصيل اتجاه زوايا الكادر السينمائي
والملابس ..الخ، بالإضافة للمشهد النهائي الذي أراه غير ضروري، فإن توجيه
الأخ الأكبر للذهاب إلي دنيا الغروب والحكم عليه بهذه القسوة للتعبير عن
انتقال الأخ الأصغر من حالة الرعاية الأسرية إلي رعاية المحب أمر يوجه
رسالة غير إنسانية !!
جريدة القاهرة في
24/02/2009 |